ليس ثمة انسان يولد مجرما بالفطرة .. هذه حقيقة .. يقسم على صدقها الفلاسفة
بأغلظ الأيمان ... ولكن ثمة قانون وثمة من يدعي بأنه وكيل القانون لديه
وصية سماوية تعطيه حق وضع القانون ومعاقبة الدراويش الذين يتجرأون على
مخالفته ولو بالخطأ .. هذه حقيقة أخرى لا تحتاج إلى ( الحلف ) ولو بأصغر
ولي صالح ..
تبدو الحقيقتان السابقتان متناقضتين إلى حد بعيد .. فقد يتساءل اي انسان في
اي مكان من عالمنا وفي اي زمان يخطر على البال : إذا لم يكن هناك مجرم
فلماذا هناك قانون ؟ واذا كان هناك قانون فلماذا لا يولد الناس مجرمين لكي
تتاح فرصة اكبر للقانون كى يؤذبهم ويجعلهم يمشون على العجين ( ما يلخبطوش )
؟!! سؤال وجيه يحتاج إلى اجابة واضحة وقاطعة بعيدة عن الفلسفة المضحكة
والقانون المبكى .. ولكنه سؤال يحتاج ايضا الى غض الطرف لانه لا يصدر الا
عن السدج والثمالى حول اقداح الخمر .....!!! وبذلك تبقى أيدلوجية الاختلاف
بين الحقيقتين متفق عليها امتثالا لحقيقة خفية مفادها : القانون للمجرم
يردعه والمجرم للقانون يخترقه ....
اما نتيجة الصراع فهى ابدية الصراع ... فالقانون لا يريد ان ينتصر على
المجرم لانه آنداك سيفقد وظيفته ويصبح مجرد عجوز متقاعد ينتظر موعد ذهابه
الى المقبرة ... اما المجرم فهو ايضا ليس لديه ادنى رغبة في الانتصار في
سبيل ان يخلق قانونا لا يعرف الطريق الى الفراغ ومداعبة المسبحة على ابواب
المساجد ...
مفارقة مضحكة ... أليس كذلك ؟ !!
اما المستفيد من هذه المفارقة فهم أولئك الفراغيون الذين يلوكون بألسنتهم
ذم القانون الذي يعجز عن صد الاجرام وذم الاجرام الذي لا يحترم جبروت
القانون ... الفراغيون الذين ليس لديهم ما يقومون به فيتربعون على صدور
صفحات الجرائد ليملؤها بالفضائح وعار القانون الذي يسكت عن تلك الفضائح ثم
يقلبون الصفحة ويكتبوا الاشعار في مدح مواليد القانون لهذا العام ومواليده
في الاعوام السابقة الذين اعيد ميلادهم تطبيقا لقانون التعديلات والالغاءات
والاضافات ...
مفارقة اخرى ... أليس كذلك ؟ !!
اما المستفيد الحقيقي من هذه المفارقة الاهزوجة فهم باقي الفراغيين الذين
يبكون حتى تجف مآقيهم وتخنقهم العبرات وهم يقرأون الصفحة الاولى ثم يندمون
على البكاء ويموتون من الضحك عندما يقلبون الصفحة ... ثم ماذا بعد ... ؟ !!
ثم يتساءلون اذا كان هناك اجرام فلماذا القانون واذا كان هناك قانون
فلماذا هناك اجرام ؟!!
سؤال وجيه سوف نضطر لغض الطرف عنه لانه لا يصدر الا عن سذج وانصاف رجال ...
؟!!
وريثما يولد فلاسفة سذج وانصاف قانونيين يقلبون السؤال ويتكرمون بالاجابة
دعونا ننظر في المرآة بالمقلوب حتى نكتشف حقائق تستحى الجرائد عن سردها ...
الحقيقة الاولى تقول : ان المجتمع هو من يصنع المجرم ... فعندما يضع
المجتمع مجموعة من الضوابط والاعراف والممنوعات يطلق عليها قانون ويطلب
احترامه والتقيد به فان المجتمع نفسه مطالب بنفس الاحترام والتقيد لذلك
القانون ... وبمجرد ان يحدث شرخ الكسر في القانون بحيث يصبح البعض بسطا
والاخرين مقام فان ذلك الشرخ لن يلتزم باي مساحة .. فهو سيتسع يوما بعد يوم
وسنة بعد اخرى ... وبعد ... أليس من المتفق عليه ان المجتمع هو الصانع
المتقن للمجرم ... ؟!! اما العقاب في هذه الحالة فهو لا يعدو ان يكون هرطقة
... العقاب في هذه الحالة ليس قانونا ... واطلاق صفة القانون عليه جريمة
في حد ذاتها ... سوف ينتظر الفراغيون قراءتها من باب التسلية بالفضائح
والشماتة بالقانون والاجرام على حد سواء .
الحقيقة الثانية نقول : ان اعتراف القانون بانه لا يحمى المجرمين الغافلين
وليس مسؤلا عنهم ولا يهمه في امرهم سوى عقابهم عن غفلتهم ووضعهم خلف
القضبان لقلة علمهم ... ان اعتراف القانون بهذا العمل الفظيع يعتبر جريمة
هى الاخرى تقتضي ان يعاقب القانون نفسه بنفسه وامام الناس وفي وضح النهار
... فعندما يجرد القانون نفسه من مسؤلية حماية ذوي النصف معرفة والاميين
والبسطاء والغافلين والمخطئين دون قصد يصبح قانونا متجبرا مخيفا ومرعبا
يكتسب صفة وجوده بالخوف منه وليس بالإحترام له ...
ثم ماذا ؟ !!
لا شئ سوى ان نصفق للمجرمين المتعالين على القانون ونمدح القانون الذي يعجز
عن مقاضاة نفسه ...
لا شئ سوى ان نقول يحيا الاجرام من باب الدعاء للقانون ويحيا القانون من
باب تشجيع الاجرام ...
مفارقة مضحكة .... أليس كذلك .؟!!
اجل ... كلا ... لا اعرف ..
اخاف مجرما يقطع رأسي واخاف قانونا يتهمنى بمضايقة المجرمين !!