هذا الكون .. حقًّا , ما أوسعه !
نعم , هذا ما وصلتْ إليه آخرُ الأبحاث العلميَّة . فالأرضُ التي نعيش فوقها تُمثِّل قطرة ماء في محيط عظيم , أو حبَّة رمل في صحراء شاسعة ! وقبل أن نغوص في أسرار هذا الكون الفسيح , لا بُدَّ لنا أن نختار وحدةً لقياس مسافاته الهائلة . في ظنِّك , ما هي هذه الوحدة ؟ هل هي الكيلومتر ؟ الألف كيلومتر ؟ المليون كيلومتر ؟
أبدًا ! إنَّ المسافات بين النُّجوم لا يكفي لقياسها حتَّى المليون كيلومتر , بل لا بُدَّ من مليون المليون ! ذلك أنَّ أقرب نجمٍ إلينا بعد الشَّمس , وهو ما يُسمَّى بالفرنسيَّة Proxima Centauri والذي ينتمي إلى النِّظام المتعدِّد النُّجوم Alpha du Centaure , يَبعدُ عنّا حوالي 41 ألف مليار كيلومتر !!
نعم , هذا أقرب نجم ! فَما بالُك ببقيَّة النُّجوم ؟! لذلك , اتّجهَ العلماء في حساب المسافات الفلكيّة إلى استعمال سُرعة الضّوء التي تبلغ 300 ألف كلم في الثَّانية . لكنّ هذا الرَّقم , على كِبَره , غير كافٍ أيضًا ! فوقع الاتِّفاقُ إذًا على السَّنة الضَّوئيَّة , وهي المسافة التي يقطعُها الضَّوءُ في سَنة من الزَّمن , كَوحْدة للقياس .
السَّنة الضَّوئيّة = 9.5 ألف مليار كيلومتر .
وعلى هذا , فَعِوَضًا أن نقول أنَّ المسافة التي تَفصلُنا عن النَّجم Proxima Centauri هي 41 ألف مليار كلم , نقول أنَّها تساوي حوالي 4.3 سَنة ضوئيَّة , أي أنَّ هذا النَّجم يبعد عنَّا مسيرة 4.3 سَنة بسرعة الضَّوء , أي أنَّه لو أرسلَ إلينا شُعاعًا من نُوره لَوَصل إلينا هذا الشُّعاع بعد 4 سنوات وثلاثة أشهر ونصف تقريبًا !
أين تقع أرضنا في هذا الكون الفسيح ؟
الأرضُ هي كوكب ينتمي إلى المجموعة الشَّمسيَّة , وهذه المجموعة تتكوَّن من :
- الشّمس , طبعًا , وهي نجم , وهي المركز الذي تدور حوله الكواكبُ والأقمار التَّابعة لها .
- ثمَّ تِسْع كواكب , وهي , ابتداء من أقربها إلى الشَّمس : عُطارد Mercure , ثمَّ الزّهرة Vénus , ثمَّ الأرض Terre , ثمَّ المرِّيخ Mars , ثمَّ المشتري Jupiter , ثمَّ زُحل Saturne , ثمَّ أورانس Uranus (اكتُشف سنة 1781 م) , ثمَّ نبتيون Neptune (اكتُشف سنة 1846 م) , ثمَّ بلوتو Pluton (اكتُشف سنة 1930 م) .
وتنتمي المجموعة الشَّمسيَّة إلى مجموعة أخرى أكبر منها بكثير تسمَّى مَجَرَّة دَرْب التّبَّانة (Voie Lactée) , ويُسمِّيها البعضُ مَجَرَّة طريق اللَّبن , وهي تضمُّ حوالي 100 مليار نجم !
ويبلغ طولُ هذه المجرَّة حوالي 100 ألف سنة ضوئيَّة , وارتفاعها حوالي 10 آلاف سنة ضوئيَّة ! وتقع المجموعة الشَّمسيَّة , بما فيها الأرض , على بُعد 30 ألف سنة ضوئيَّة من مركز هذه المجرَّة , وعلى بُعد 20 ألف سنة ضوئيَّة من أقرب طَرف لها , وحوالي في وسط ارتفاعها !
لا شكَّ سيِّدي الكريم أنَّك مندهش لهذه الأرقام التي لا يستطيع العقلُ البشري أن يَستَوْعبها لِضَخامتها ! ولكنَّها حقائق , أكَّدها علماء الفلك في مختلف بلدان العالم .
وسوف تزداد دهشتك إذا علمتَ أنَّ مجرَّتنا , درب التّبَّانة , ليست هي كلّ الكون ! أبدًا , فالجزءُ مِن الكون الذي تَوصَّل العلماءُ اليوم إلى اكتشافه بواسطة مَراصدهم العملاقة , يحتوي على حوالي 100 مليون مجرَّة ! ولكن بَقِيَ جزءٌ أكبر لم تطُلْهُ أعيُنُ المراصد , ومِن المحتمل أنَّه يحتوي أيضًا على عدد أكبر من المجرَّات !
والمدهش أكثر أنَّ المسافة بين هذه المجرَّات تُقدَّر بملايين السِّنين الضَّوئيَّة ! وهذا يعني أنَّ الكون , بالرَّغم من احتوائه على مليارات المليارات من النُّجوم , إلاَّ أنَّه فارغٌ بأتمِّ معنى الكلمة ! وأنتَ عندما تَستلقي على ظهرك تتأمَّلُ السَّماء , في ليلةٍ ظلماء لا يَشوبُها سحاب , تُشاهد حشدًا هائلا من النُّجوم , فتظنُّ أنَّ الكون مُزدحم . لكنَّ الحقيقة أنّك لو ركبتَ مثلا مركبةً فضائيَّة لِتَنْقُلَكَ من نجم لآخر , لَبقيَتْ تسير بك ملايين السِّنين في فراغ مُوحش وسواد شديد , لا يعترضُكَ فيه أيُّ شيء حتَّى تصل إلى النَّجم المقْصُود !
فهل عرفتَ الآن سيِّدي الفاضل كم هو فسيح جدًّا هذا الكون , وكم هي صغيرةٌ جدًّا جدًّا جدًّا .. هذه الأرض التي نعيشُ فوقَها ؟!
---------------------- 5
الكلُّ يجري بسرعات خياليَّة !
إذا كنتَ سيِّدي أُصبتَ بالدَّهشة والذُّهول مِن سعة هذا الكون وكثرة كواكبه ونجومه , فلتعلَمْ أيضًا أنَّ كلّ ما فيه يَجري ويَدور !
إليك هذه الأرقام التي وصلَ إليها علماءُ الفلَك :
تدور الأرضُ حول محورها مرَّةً كلَّ 23 ساعة و56 دقيقة و4.1 ثانية , وذلك بسُرعةٍ تزيد قليلاً عن 1600 كلم في السَّاعة بالنِّسبة لِنُقطةٍ عند خطِّ الاستواء . نعم , إنَّ الأرض تدور بنا بهذه السُّرعة المجنونة , ونحن لا نشعر بِدَوَرانِها على الإطلاق !
وليس هذا فقط , فهي في نفس الوقت تدورُ , ومعها القمر , حول الشَّمس في مَدار إهليلي مرَّةً كلَّ 365 يومًا وربع اليوم , بسرعة 105 ألف كلم في السَّاعة , ونحنُ لا نشعُرُ أيضًا بأيِّ شيء ! في حين أنَّنا لو ركِبْنَا مثلاً سيَّارةً تجري بنَا بسرعة 300 كلم في السَّاعة , لَأصابَنا الدُّوار , ولَكادَ قلبُنا أن يَسقط من الخوف . فكيف يكون حالُنا لو أنَّنا كنَّا نُحسُّ فعلا بحركة الأرض , وهي تدور بنا حول نفسها بأكثر من خمسة أضعاف سرعة هذه السَّيَّارة , وفي نفس الوقت تجري بنا حول الشّمس بأكثر من ثلاثمائة ضعف هذه السُّرعة ؟!
وتدور الشَّمسُ حول مركز مجرَّة درب التّبَّانة بسرعة 69500 كلم في السّاعة , بالنّسبة لِمَا حولها من النُّجوم , حاملةً معها الأرض وبقيَّة المجموعة الشَّمسيَّة !
وتدور مجرَّة درب التّبَّانة في مدار حلزوني حول مركزها الهندسي بسرعة 972 ألف كلم في السَّاعة , حاملةً معها الأرض والشَّمس وبقيَّة نجوم المجرَّة !
شيء أقرب للخيال منه للواقع , ومع ذلك فهو واقع , أكَّدَتْهُ الدِّراساتُ الفلكيَّة في مختلف البلدان .
وهنا , اسمحْ لي أن أسألكَ سيِّدي الكريم : هل يَقبَلُ عقلُكَ أنَّ هذا الكون الفسيح , بِما فيه من مليارات الكواكب والنُّجوم والمجرَّات , وبِما فيه من بَشَر ودوابّ , وُجِدَ عن طريق الصُّدفة , وكُلُّ ما فيه يَتحرَّكُ بالصُّدفة ؟!
أليس الأقرب إلى المنطق أن يكون وراء وُجُوده وحركَته صانعٌ أو خالق , على أكمل قَدْر من العظمة والقُدرة ؟
---------------------- 5
الكون في اتّساع مستمرّ !
في بداية القرن العشرين , كانت نتائج بحوث علماء الفلك تُشير إلى أنَّ أكثر المجرَّات تتباعد عن مجرَّتنا درب التّبَّانة . ولكن لم يتمَّ التَّأكُّد من ذلك إلاَّ سنة 1929 م , عندما تمكَّن عالم الفلك الأمريكي Edwin Hubble من إثبات أنَّ كلَّ المجرَّات تتباعد عن بعضها البعض , وأنَّ الكون في اتِّساعٍ دائم ! ووضعَ هذا العالِمُ قاعدةً لحساب سرعة تباعد المجرَّات .
وهذا الاكتشاف يدعُونا لِأَن نقف للمرَّة الأولى مع القرآن الكريم , الكتاب المقدَّس للمسلمين , المنزَّل من اللَّه تعالى على النَّبيِّ محمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم , عن طريق الملَك جبريل عليه السَّلام , لأنَّ فيه إشارة إلى هذا الموضوع . يقول اللّه تعالى : { وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ 47 } (51- الذّاريات 47) . ففي هذه الآية أعلنَ اللَّهُ تعالى أنَّه هو الذي بَنَى السَّماء , ثمَّ أضاف قائلاً : { وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ } . فهل جاءت هذه الجملةُ اعتباطًا ؟
مستحيل ! فكلُّ مَنْ يبحثُ في القرآن يعرف أنَّ كلَّ كلمة فيه لها معناها الدَّقيق , ولو أُبدِلَتْ بغيرها لَضاع المعنى الصَّحيح للآية .
لعلَّ اللَّهَ إذًا أراد فعلاً الإِشارة إلى الحقيقة التي تَوصَّل إليها العلماء حديثًا , مِن أنَّ الكون يتَّسع ويتَّسع , دون توقُّف !
---------------------- 5
لماذا أقسم اللَّهُ تعالى بمواقع النُّجوم ؟
يقول علماءُ الفلك أنَّ كلَّ النُّجوم تجري في السَّماء دون توقُّف ! فهي تدور باستمرار حول مركز المجرَّة التي تنتمي إليها , وفي نفس الوقت تجري مع هذه المجرَّة , مبتعدة بذلك عن نجوم وكواكب المجرَّات الأخرى . ونظرًا إلى أنَّ المسافات بين الأرض التي نعيش فوقها والنُّجوم التي نراها في السَّماء تُقدَّر بآلاف السِّنين الضَّوئيَّة (أي ملايين المليارات من الكيلومترات) , فإنَّ الذي نراه نجمًا في السَّماء هو في الحقيقة ضوء ذلك النَّجم الذي بَدأ سفَرهُ إلينا من ذلك المكان منذ آلاف السِّنين !
نعم , فالنَّجم الذي يبعد عنَّا مثلاً ألف سنة ضوئيَّة , ونراه الآن في السَّماء , نحن نرى في الحقيقة ضوءَه الذي أرسلَه إلينا منذ ألف سنة من ذلك الموقع , فلم يصلْنا إلاَّ الآن فقط ! أمَّا النَّجم نفسُه , فقد انتقل منذ ذلك الزَّمن إلى موقع آخر , ثمَّ إلى مواقع أخرى , بسبب جريانه المستمِرّ !
وهنا , أجدُ من الضَّروري أن نقف وقفة أخرى مع القرآن الكريم , لأنَّ فيه إشارة إلى هذه الحقيقة ! يقول اللَّه تعالى : { فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ 75 وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ 76 إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ 77 فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ 78 لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ 79 تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ 80 } (56- الواقعة 75-80) .
فلو أقسَمَ اللَّهُ تعالى في الآية 75 بالنُّجوم , لَكان القسَمُ عاديًّا . لكنَّه أقسَمَ بِمَواقعها , رُبَّما لِيَلْفِتَ انتباهنا إلى أنَّ النُّجوم تجري في الفضاء , وأنَّ ما نراه في السَّماء نجمًا , هو في الحقيقة مَوْقعه .
وإذا كان هذا الاستنتاجُ صحيحًا , فإنَّ بقيَّة الآيات , التي أعلنتْ أنَّ القرآن الكريم تنزيلٌ من ربِّ العالَمين , لا بُدَّ أن تكون صحيحة أيضًا . هذا ما يقوله المنطق ! أم أنَّ لك رأيًا آخر ؟!
---------------------- 5
ولكن , كيف بدأ هذا الكون ؟
يقول علماءُ الفلك أنَّ الكون , بكلِّ ما فيه من نجوم وكواكب وغيرها , كان قبل حوالي 13 مليار سنة خليطًا من جُسَيْمات أوَّليَّة وإشعاعات , أي كان خليطًا من مادَّة وطاقة منضغطة في حَيِّز صغير . وكان هذا الخليط شديد الكثافة , وعالي الطَّاقة جدًّا , تزيد درجة حرارته على 100 مليار درجة !
ثمَّ انفجر هذا الخليط انفجارًا عظيمًا , يسمِّيه علماء الفلك Big Bang , وتفرَّقت أجزاءُه مبتعدة عن بعضها البعض . ثمَّ , وبعد ملايين السِّنين , تحوَّلت هذه الأجزاء إلى دخان .
وتُنسَب هذه النَّظريَّة إلى عالم الفيزياء النَّوويَّة , الأمريكي George Gamow , الذي نشرها سنة 1948 م , واعتمد في التَّدليل عليها على ظاهرة تباعد المجرَّات عن بعضها البعض , مِمَّا يُؤكِّد حدوث الانفجار . وقد شاهد علماء الفلك فعلاً سنة 1965 م صورة دخان , كأثَرٍ للانفجار العظيم , أتتْهُم من بُعْد أكثر من 10 مليار سنة ضوئيَّة (أي أنَّ هذه الصُّورة حدثتْ منذ أكثر من 10 مليار سنة) !
هكذا إذًا بدأ الكون : خليطٌ من مادَّة وطاقة انفجر انفجارًا عظيمًا , ثمَّ نشأ دخانٌ من هذا الانفجار , ثمَّ تكوَّنت النُّجومُ والكواكب والأقمار من هذا الدُّخان .
وهنا , اسمحي لي يا ابنتي الفاضلة أن أتوقَّف عند آيتين في القرآن الكريم , ربَّما فيهما إشارة إلى هذه الحقائق !
الآية الأولى ذكَرتْ أنَّ السَّماء , بما فيها من نجوم وأجرام أخرى , كانت دُخانًا قبل أن تُصبح على الصُّورة التي هي عليها اليوم ! يقول اللَّه تعالى متحدِّثًا عن ذاته العليَّة : { ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ 11 } (41- فصّلت 11) .
وقد سُئل الأستاذ الياباني Yoshide Kozai , وكان مديرًا لِمَرصد ميتاكا بطوكيو , عن كيفيَّة بداية هذا الكون , فقال : لقد أصبح اليومَ واضحًا أنَّ كلَّ هذا الكون نشأ من دخان . فقيل له : ولكنَّ بعض العلماء يستعملون كلمة ضباب . فأجاب بأنَّ هذه التّسمية لا تصحُّ , وأنَّ الوصفَ الأكثر دقَّة هو دخان , لأنَّ الضَّباب بارد بينما الدُّخان الكوني يُخفي حرارة عالية .
فإذا كان محمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم قد أتى بالقرآن من عنده , فكيف علم أنَّ السَّماء كانت دخانًا ؟!
الآية الثَّانية فيها إشارة إلى أنَّ السَّماوات والأرض نشَأتَا من مصدر واحد ! يقول اللَّه تعالى : { أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ 30 } (21- الأنبياء 30) . والرَّتقُ في اللُّغة : ضدّ الفَتْق . وبالتَّالي , فإنَّ هذه الآية تُشير إلى أنَّ السَّماوات والأرض كانتا مُلْتصقَتَين , ثمّ انفصلتَا بأمْر خالقهما . وقد أكَّد العلماء فعلاً أنَّ السَّماوات والأرض نشأتَا من خليط واحد .
وقد عُرضت هذه الآية على الأستاذ الأمريكي Alfred Kroner , أحد علَماء الجيولوجيا البارزين وأستاذ ورئيس سابق لقسم الجيولوجيا في جامعة ألمانيَّة , فقال : إنَّ رجلاً جاء منذ حوالي 1400 سنة , لا يعرف شيئًا عن الفيزياء النَّوويَّة , لا يستطيع في نظري أن يكتشف ولو بعقله ومنطقه فقط أنَّ السّماوات والأرض خُلِقتَا من مصدر واحد .
ثمَّ عُرضت عليه آيات قرآنيّة أخرى عن تكوين الأرض , فقال : إنِّي مندهشٌ جدًّا لِوُجود هذه الحقائق العلميَّة في القرآن !
من أين جاءت المادَّة الأولى ؟
إذا كان كلُّ الكون انبثق عن خليط من جُسَيْمات أوَّليَّة وإشعاعات , فكيف جاء هذا الخليط الأوَّل ؟
جوابُ العلماء : لا أحد يدري !
جوابُ بعض النّاس من غير العلماء : جاء عن طريق الصُّدفة ! وطبعا هذه الإجابة لا يقبلُها العقلُ ولا المنطق .
لكنّ القرآن له جوابٌ واضح عن هذا السُّؤال . يقول اللَّه تعالى : { إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ 40 } (16- النّحل 40) . ويقول تعالى : { وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ 73 } (6- الأنعام 73) . ويقول تعالى : { أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ 81 إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ 82 فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ 83 } (36- يس 81-83) .
فالمادّة الأولى للكون , خلَقها اللَّهُ تعالى الذي يقول للشَّيء كُن فيكون . نعم , فالذي قَدَر على خَلْق هذا الكون بكلِّ ما فيه , له أيضًا القدرة على أن يخلق الشَّيءَ مِنْ لا شيء !
أليس هذا التَّفسير هو الأقرب للمنطق ؟!
---------------------- 5
ماذا لو سقطت السَّماء على الأرض ؟!
اطمئنِّي سيِّدتي ! فلن يحدث هذا الأمر طالَما لم تَحِنْ نهايةُ العالَم . إنَّ الذي خلَق هذا الكونَ سَنَّ فيه قوانينَ دقيقة , تكفي وحدها للتَّدليل على وجود هذا الخالق وعلى عظمته المطلقة !
من بين هذه القوانين : قانون الجاذبيَّة الذي اكتشفه وصاغَه عالِمُ الرِّياضيَّات والفيزياء الإنجليزي Isaac Newton . وقصّة هذا العالم مشهورة , وهي أنَّه كان يومًا مستلقيًا تحت شجرة تفّاح , فسقطت تفَّاحة على الأرض , فتساءل في نفسه : لماذا نزلت التُّفَّاحة إلى الأسفل ولم تصعد إلى فوق ؟ ثمَّ قام ببحوث واكتشف قانون الجاذبيَّة .
وقد استنتج الكثير من النَّاس من هذه القصَّة أنَّ الجاذبيَّة هي من خاصِّيَّات الأرض فقط . لكنَّ الحقيقة هي غير ذلك , فكلُّ الأجرام السَّماويَّة لها جاذبيَّة , وكلُّها تتجاذب فيما بينها , غير أنّ هذه الجاذبيّة تختلف قوَّتُها من جِرْم لآخر .
ولم يكن Newton لِيَستطيع أن يَصوغ قانون الجاذبيَّة بسهولة ودقَّة , لو اقتصر في حساباته على الأرض فقط . لذلك اعتمد في بحوثه على ما وصل إليه مَن سَبقه من علماء الفلك , مثل الألماني Johannes Kepler الذي صاغ القوانين التي تحكُم دوران الكواكب حول الشَّمس . وبذلك تَوَصَّل Newton إلى اكتشاف قانون الجاذبيّة الشّامل الذي نشره في كتابه Philosophiae Naturalis Principia Mathematica سنة 1687 م .
وهنا لا بُدَّ من ملاحظة شيء هامّ : وهو أنَّ علماء الفلك قد اكتشفوا منذ بداية القرن السَّادس عشر أنَّ النُّجوم والكواكب في السَّماء , بالرَّغم من عددها الذي لا يُحصى , وبالرَّغم من المسافات الخياليَّة التي تفصل بينها , إلاَّ أنَّها في الأخير تخضع كلُّها لِقَوانين وسُنَن واحدة !
وهذا ما ساعدَهم في الوصول ببحوثهم إلى ما وصلوا إليه اليوم . وأصبح عالِمُ الفلك في عصرنا هذا يحسِبُ حركةَ الأجرام السَّماويَّة على الوَرق , بناءً على القوانين التي وقعَتْ صياغتها , ثمَّ يَطلُعُ علينا ليقول أنّه بعد ثلاثين سنة مثلاً , في يوم كذا , على السّاعة كذا , سيحدث كسوفٌ للشَّمس . وتَمُرُّ السِّنين , ويأتي اليوم الموعود , ويحدث الكسوف فعلاً ! فيكون ذلك دليلاً قاطعًا على صحَّة القوانين التي اعتمدها في حساباته .
وقد ذكَر الدّكتور أحمد زكي في كتابه القيّم : مع اللَّه في السَّماء , قصَّة طريفة في هذا المجال , مُلَخَّصها أنَّه سنة 1781 م , بينما الفلكي الإنجليزي William Herschel يَرصد جانبًا من السَّماء بمرصده , إذ به يكتشف كوكبًا جديدًا في المجموعة الشَّمسيَّة , فأسماه العلماء أورانس Uranus . وحسبُوا حركتَه ومدارَه معتمدين على قوانين الحركة والجاذبيَّة , ولكنَّهم حارُوا في أمرهم : إنَّ مَداره المرصود بالعين ليس كمداره المحسوب على الورق ! فأعادُوا حساباتهم بالاعتماد على قوَّة جاذبيَّة الشَّمس وقوَّة جاذبيَّة الكواكب الأخرى لهذا الكوكب الجديد . غير أنَّ المدار الواقعي والمدار المحسوب لم يتطابقَا .
وهنا , بما أنَّ قوانينَهم صحيحة , افترض عالم الفلك الفرنسي Urbain Le Verrier أنَّه لا بُدَّ أن تكون هناك قوَّة جاذبيَّة أخرى آتية من كوكب آخر أَبْعد . إنَّ أحدًا لم يَرَ هذا الكوكب , ولكن كان لا بُدَّ من وجوده إذا ما صدق قانونُ الجاذبيَّة ! وما أسرع ما كشف عنه Le Verrier بالحساب سنة 1846 م . وكتب إلى العاملين بمرصد برلين يخبرهم بذلك . فوَجَّهوا مراصدهم إلى الموضع المحدَّد , ورأوا الكوكب الذي يبحثون عنه رأي العين , كشَف عنه عالم الفلك الألماني Johann Galle , وسمّوه نبتيون Neptune .
وبَقي اختلاف صغير في مدار أورانس , فافترض العلماء من جديد أنَّه لا بُدَّ أن يكون هناك كوكب آخر أبعد من نبتيون مختبئ في السَّماء ! وأطلقوا وراءه مراصدهم تبحث , وما كان أبعده , ومع هذا اكتَشفوه أخيرًا سنة 1930 م , اكتشفهُ عالم الفلك الأمريكي William Tombaugh , وأسموه بلوتو Pluton .
فهل تريدين سيِّدتي الفاضلة دليلاً أقوى من هذا على أنَّ هذا الكون , بالرَّغم من اتِّساعه الهائل , يَسير وفْق نظام واحد , سطَّره خالق واحد ؟! وهل بعد هذا مبرّرٌ للحديث عن الصُّدفة في خلق السَّماوات والأرض ؟!
---------------------- 5
لكنَّ الجاذبيَّة وحدها لا تكفي لتماسك الكون
نعم , فلو كان الكون قائمًا فقط على قانون الجاذبيَّة , لَكَانت الغَلَبةُ للأقوى , ولَجَذبت الشَّمسُ كلَّ الكواكب والأقمار التَّابعة لمجموعتها , فارتطمت بها واحترقت فيها !
لذلك , سَنَّ خالقُ هذا الكون قانونًا آخر , وهو قانون الحركة , لكي لا تصطدم الكواكبُ والنُّجوم ببعضها . ولكي تفهم هذا القانون , خُذْ سيّدي حبلاً قصيرًا , اربطْ في أحد طَرفَيْه حجرًا صغيرًا , وامسك الطَّرف الآخر بِيَدك . ارفعْ يدكَ إلى فوق , وابدأ في إدارة الحبل فوق رأسك شيئًا فشيئًا . عندما يكتسب الحجرُ سرعة معيَّنة , أوقِفْ يَدك عن الدَّوران , واترك الحجر يدور مع الحبل . ماذا تلاحظ ؟
ستلاحظ أنَّ الحبل يجذب على يدك , وكأنَّ الحجر يريد أن يهرب وينطلق بعيدًا عن الدَّائرة التي يدور فيها . لماذا ؟
لأنَّ الحجر لَمَّا أصبح يدور بسرعة معيَّنة , أكسبهُ هذا الدَّورانُ قوَّة دَفْع (أو طَرْد) , أخذت تحاول طَرْدَ الحجر بعيدًا عن مركز الدَّوران , أي بعيدًا عن يدك . غير أنَّ الحجر لا يستطيع الهروب , لأنَّ هناك قوَّة مضادَّة تمنعه من ذلك , وهي قوَّة الجذب التي تُحْدِثُها يدك .
مثال آخر : ربَّما دخلتَ في صغرك حديقة ألعاب , وجلستَ فوق حصان خشبي يدور حول مركز , ومشدود إلى هذا المركز بواسطة عصًا معدنيَّة غليظة . عندما بدأ الحصانُ في الدَّوران وازدادت السُّرعة , شعرتَ ولا شكَّ كأنَّ قوَّةً مَا تريد أن تَطْرُدك من مكانك وتقذف بك بعيدًا . ذلك أنَّ الدَّوران حول مركز يُحْدث قوَّة طَرْد , مضادَّة لقوَّة الجذب .
وهذا هو السِّرُّ الكبير في تماسك الكون . فنحن نعلم أنَّ الأرض تدُور حول الشَّمس بسرعة كبيرة جدًّا . وهذا الدَّورانُ يُكْسبها قوَّةَ طَرْد تحاول دَفْعَها خارج مدارها . غير أنَّ الشَّمس لها قوَّة جذب مُضادَّة ومُساوية لقوَّة الطَّرْد , تجذب الأرض إليها وتمنعها من الهروب .
فلَولا جاذبيّة الشّمس , لهربت الأرض وتاهت في السَّماء . ولولا دوران الأرض حول الشَّمس الذي يُكسبها قوَّة دَفْع مُضادَّة للجاذبيَّة , لَجَذَبت الشَّمسُ الأرضَ إليها فتحطَّمتْ فوقها !
وهذا هو الحال بالنِّسبة لكلِّ الأجرام السَّماويَّة , من كواكب ونجوم وأقمار وغيرها . كلٌّ منها يدور بسرعة هائلة في مدار خاصٍّ به , لا يمكن أن يحيد عنه أبدًا , لأنَّه خاضع لجاذبيَّة نجم أو كوكب آخر تمنعه من الهروب .
وهذا هو الحال أيضًا بالنِّسبة لِمَجموعتنا الشَّمسيَّة التي نعرفها أكثر . فهل سمعتَ يومًا أنَّ الأرض اصطدمت عبر تاريخ البشريَّة بكوكب عطارد مثلاً أو الزّهرة , أو أنَّ القمر سقط على الأرض ؟!
لا , فالكلُّ يسير وفق نظام دقيق .
وهنا , لا أستطيع أن أتابع قبل أن أذكر لك آيتين في القرآن الكريم , أشارتا بوضوح إلى هذه الحقائق !
يقول اللّه تعالى في الآية الأولى : { وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ 33 } (21- الأنبياء 33) . واللَّيلُ والنَّهار هنا يشيران إلى الأرض , لأنَّه لو كان المقصود بالسِّباحة الشَّمس والقمر فقط , لقال تعالى : يَسْبَحان . ولكنَّه قال : يسبحُون , أي الأرضُ والشّمسُ والقمر . ولَفْظ السّباحة يعني الانتقال من مكان لآخر . وقد ذكرْنا فعلاً أنّ كلّ الأجرام السّماويّة تجري .
ويقول تعالى في الآية الثّانية : { لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ 40 } (36- يس 40) . وفي هذا إشارةٌ إلى أنّ الشّمس والقمر والأرض لا يمكنُ أن يصطدم أحدُها بالآخر , لأنّ كلّ واحد منها يجري في مَداره الخاصّ به , لا يمكن أن يحيد عنه .
فكيف جاء محمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم بهذه المعلومات الدّقيقة , إن لم يكن خالقُ الأرض والسّماء هو الذي أخبره بذلك ؟!