ما يمكن استخلاصه بخصوص التَّوراة والأناجيل
ما يمكنُ استخلاصُه إذًا من كلِّ ما سَبق هو أنَّ التَّوراة الموجودة اليوم عند اليهود ليست هي التي أُنزِلَتْ على موسى عليه السَّلام , وذلك بشهادة القرآن الذي أعلَن أنَّ التَّوراة الأصليَّة حُرِّفَتْ بعد موت موسى , وبشهادة الباحثين في تاريخ الأديان الذين قالُوا أنَّها أُتْلِفَتْ أثناء الحروب , هذا بالإضافة إلى الأدلَّة التي ذكَرناها والتي لا تتركُ مجالا للشّكّ أنَّ هذه التَّوراة تحتوي على نصوص لا يقبل العقل ولا المنطق أن تكون صادرة عن خالق هذا الكون بِمَا فيه .
كذلك , الأناجيل الموجودة اليوم عند النَّصارى ليست هي الإنجيل الذي أُنزِلَ على عيسى عليه السَّلام , وذلك بشهادة القرآن الذي ذكَر إنجيلاً واحدًا أُنزِلَ على عيسى , بينما نجدُ اليوم أربعة , والبقيَّة أُحرِقَتْ , وبشهادة النَّصارى أنفسهم والمؤرِّخين الغربيِّين الذين يعترفُون أنَّ هذه الأناجيل لَمْ يَكتُبها عيسى ولم يُمْلِلها على أتباعه , وإنَّما كَتبها أُناسٌ بعد موته بأكثر من قرن ونصف , ونَسبُوها إلى تلاميذه من الجيلَيْن الأوَّل والثَّاني , هذا بالإضافة أيضًا إلى الأدلَّة التي ذكَرناها والتي تُبيِّن أنَّ هذه الأناجيل تحتوي على تناقضات عديدة وأقوال باطلة لا يقبل العقل ولا المنطق نسبتها إلى اللَّه سبحانه وتعالى .
لا يَصحُّ إذًا , بأيِّ حال من الأحوال , اعتماد التَّوراة أو الأناجيل أو الرَّسائل المصاحبة لها , كمراجع دينيَّة من عند اللَّه تعالى , ولا يُقبلُ الاستشهاد بها في أيّة مسألة من المسائل .
---------------------- 5
القرآن الكريم , معجزة كلّ الأزمان !
ليس هناك أيّ وَجْه مقارنة بين القرآن الكريم , وبين توراة اليهود وأناجيل النَّصارى , لا في الأسلوب ولا في المحتوى ! فالقرآن كتابٌ مُقدَّس فريدٌ من نوعه , مُعجِزٌ ببلاغته ومحتَوى آياته , وهو دليلُ الإنسان في كلِّ مجالات حياته , في كلِّ البلدان وكلِّ الأزمان إلى قيام السَّاعة !
وبخلاف الكُتب السَّماويَّة السَّابقة التي بُدِّلَتْ وحُرِّفت , فإنَّ القرآن قد تكفَّل اللَّهُ سبحانه بحفظه , ليكون شاهدًا على وجود الخالِق , وليكون منهاجًا لِخَلْقِه إلى آخر الزَّمان , لأنَّه لا نبيَّ بعد محمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم , يقول اللّه تعالى : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ 9 } (15- الحجر 9) . والمقصود بالذِّكْر هنا : القرآن الكريم , تعهَّد اللَّهُ بحفظه . فهل يستطيع أيُّ مخلوق بعد هذا أن يُبدِّل أو يحرِّف كلمة واحدة منه ؟!
إطلاقًا ! ولو اجتمعتْ على ذلك الإنسُ والجنّ . فإذا كان اللَّه تعالى قد استطاع بقُدرته حفظَ السَّماوات والأرض من الوقوع منذ مليارات السِّنين , فهل يُعجزهُ أن يَحفظ القرآن من التَّحريف بعد أن تعهَّد بذلك ؟!
أبدًا ! والدَّليل أنَّك تطوفُ العالَم اليوم شبرًا شبرًا , فلا تجدُ إلاَّ قرآنًا واحدًا , هو بالضَّبط الذي أَنزلَه اللَّهُ تعالى , بواسطة الملَك جبريل عليه السَّلام , على النَّبيِّ محمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم منذ حوالي 1400 سنة .
ثمَّ إنَّ الآيات التي عرضتُها عليك من قبل , والتي تُشير إلى حقائق علميَّة دقيقة لم يستطع العلماءُ الوصول إليها إلاَّ منذ وقت قريب وبعد سنوات من التَّجارب الدَّقيقة والملاحظة المستمرَّة , هذه الآيات لا تَدَعُ مجالاً للشَّكِّ في أنَّ هذا القرآن وحيٌ من عند اللَّه , وأنَّه لم يَدخُلْ عليه أيّ تغيير أو تبديل , وأنَّ كلّ ما جاء فيه حقٌّ . يقول اللَّه تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ 41 لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ 42 } (41- فصّلت 41-42) .
ذلك أنَّ اللَّه تعالى لَمَّا بعثَ أنبياءَه أيَّدَهم بمعجزات تتناسب مع أَزْمانهم :
فالنَّبيُّ موسى عليه السَّلام بُعِثَ في عصْرٍ اشتهَر بانتشار السّحْر وتقدُّم السَّحَرة في هذا المجال , فأيَّده اللَّهُ تعالى بعصا , تحوَّلَتْ بإذنه (أي بإذن اللَّه) إلى حيَّة , وأبطَلَتْ حِيَل كبَار السَّحرة . ويَحكي لنا القرآنُ تفاصيل هذه الحادثة بأسلوبه الفريد الذي يشهد لِوَحده أنَّه كلام اللَّه , فيقول متحدِّثًا عن فرعون : { وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى 56 قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى 57 فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى 58 قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى 59 فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى 60 قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى 61 فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى 62 قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى 63 فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى 64 قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى 65 قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى 66 فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى 67 قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى 68 وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى 69 فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى 70 قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى 71 قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا 72 إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى 73 إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَى 74 وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى 75 جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى 76 } (20- طه 56-76) .
فكِبارُ السَّحرة الذين جَمَعَهُم فرعونُ لِنُصْرته رأَوْا بأَعيُنهم , وهم المتخصِّصون في هذا الميدان , أنَّ العملَ الذي قام به موسى عليه السَّلام يستحيلُ أن يكون سحرًا , وإنَّما هو معجزةٌ أيَّده اللَّهُ تعالى بها . فلم يتردَّدوا في الإيمان بموسى وبخالقه , بالرَّغم من تهديد فرعون ووعيده لهم !
وأمَّا النَّبيُّ عيسى عليه السَّلام , فقد بعثه اللَّه تعالى في عصْرٍ تَطوَّر فيه الطِّبُّ , فأيَّده بقُدرات غير عاديَّة على مداواة الحالات المرَضيَّة المستعصِيَة وحتَّى إحياء الموتى , كلُّ ذلك بإذن اللَّه . يقول تعالى مفصِّلاً هذه المعجزة : { إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ 110 } (5- المائدة 110) .
كلُّ قُدُرات عيسى عليه السَّلام كانت إذًا معجزات من عند اللَّه تعالى . فإذا كان النَّصارى قد اتَّخَذُوا من هذه المعجزات سببًا لِتَأليه عيسى وادِّعاء أنَّه ابنُ اللَّه , فلماذا لا يكون إبراهيمُ عليه السَّلام كذلك وقد رُميَ في النَّار فخرج منها سالِمًا ؟! ولماذا لا يكون موسى عليه السَّلام كذلك وقد ضَرب البحرَ بعصاه فانفلق إلى نصفين , فاخترقَه هو وأتباعُه فلم يغرقوا , وتبعهم فرعونُ وجنوده فغرقوا ؟!
بل , هل يَقبل العقل والمنطق أن يكون لِخَالق هذا الكون الهائل ابنٌ أو زوجة ؟! تعالى اللَّه عمَّا يقول الظَّالمون علُوًّا كبيرا !
أمَّا محمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم , فقد بعثه اللَّهُ تعالى في عصْر البلاغة والفصاحة , فأيَّده بالقرآن الكريم الذي أَعجز الفُصحاءَ والأدباءَ والشُّعراء في ذلك الوقت . وإذا كانت معجزةُ كلُّ نبيٍّ قد انقطعت بموته , فإنَّ معجزة محمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم خالدة إلى قيام السَّاعة ! يقول اللَّه تعالى متحدِّثًا عن الكفَّار : { وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ 50 أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ 51 قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ 52 } (29- العنكبوت 50-52) .
فالكفَّارُ مِن قَوْم محمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم طَلبُوا منه أن يُريهم مُعجزات ملموسة , كما فعل الأنبياء مِن قبله , لِيَتحقَّقُوا أنَّه مبعوثٌ من عند اللَّه . فأجابهم اللَّهُ تعالى بأنَّ القرآنَ الكريم كافٍ وحده ليكُون معجزةً لهم خاصَّة , وللنَّاس عامَّةً في كلِّ الأزمان .
ولو طلبنا اليومَ من نصراني أن يُرينا كيف كان عيسى عليه السَّلام يُبرئ الأبرص ويُحيي الموتى , لَعَجز عن ذلك . وكذا الحالُ لو طلبنا من يهودي أن يُرينا كيف كانت عصا موسى عليه السَّلام تتحوَّل إلى حيَّة .
أمَّا لو طلبنا من مسلم أن يُرينا معجزة محمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم , فسَيَجِدُها دون تعب ! إنَّها القرآنُ الكريم الذي سَحَر ببلاغته فُصحاء العرب في كلِّ عصر , وبَهَر بمحتواه كلَّ النَّاس . فهو فعلاً مَرْجعٌ في الأخلاق , والعلاقات الاجتماعيَّة , والمعاملات الماليَّة , والقضاء , وأخبار السَّابقين , وأخبار العوالم الأخرى من ملائكة وجنٍّ وشياطين , والأخبار الغيبيَّة عن البعث والحساب . وها نحنُ اليوم في عصر العلم لا نزال حائرين أمام إعجاز القرآن العلمي في مختلف الميادين , وكذلك إعجازه البلاغي والتَّشريعي !
---------------------- 5
كيف أُنزل القرآن الكريم ؟
أُنزلَ القرآنُ وحيًا باللُّغة العربيَّة , مِن اللَّه تعالى على النَّبيِّ محمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم , بواسطة الملَك جبريل عليه السَّلام . يقول اللَّه تعالى : { وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ 192 نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ 193 عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ 194 بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ 195 } (26- الشّعراء 192-195) .
ولم ينزل القرآنُ مرَّةً واحدة , وإنَّما نزلَ متفرِّقًا , بحسب الأحداث , على مدى 23 سنة . يقول اللَّه تعالى : { وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً 106 } (17- الإسراء 106) .
فكان النَّبيُّ محمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم يَحفظ ما أُنزل عليه من آيات , ثمَّ يتلُوها على أصحابه , فيَحفظونها في صدورهم ويكتبوها . وكان مِن بين أصحابه مَن كان مُكلَّفًا بكتابة الوحي , مثل : زيد بن ثابت وعبد اللَّه بن مسعود رضي اللَّه عنهما , فكانَ النَّبيُّ صلَّى اللَّه عليه وسلَّم يُملي عليهم ما يَنزلُ عليه من الآيات , فيكْتبوها فَوْر نُزولها .
ولا يمكن أن نشكَّ في جَوْدة حفْظ النَّبيِّ للقرآن , لأنَّ اللَّه تعالى تكفَّلَ بتحفيظه له ! يقول تعالى مخاطبًا إيَّاه : { لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ 16 إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ 17 فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ 18 ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ 19 } (75- القيامة 16-19) .
ذلك أنَّ الملَكَ جبريل عليه السَّلام كان يأتي إلى النَّبيِّ محمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم لِيُوحِي إليه آيات جديدة من القرآن , فكان النَّبيُّ يتعجَّلُ في ترديد ما يقرأه عليه الملَك حتَّى لا يَنسى أيَّ حرف منه . فطَمْأنه اللَّهُ تعالى في هذه الآيات بأنَّه تكفَّل بأن يجمع له القرآنَ في صدره فلا ينساه أبدًا , ويُبيِّن له معناه ويُوَضِّحه له . ما عليه إذًا إلاَّ أن يُنْصت إلى الملَك , ثمَّ يقرأ وراءه بكلِّ طمأنينة .
وكان للنَّبيِّ بعد ذلك موعدٌ سنوي مع جبريل عليه السَّلام , لِيَعرض عليه ما نزل حتَّى ذلك اليوم من القرآن . فقد روى الإمام أحمد في مُسْنَده عن ابن عبَّاس رضي اللَّه عنه , قال : كان رسولُ اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم يعرضُ القرآن في كلِّ رمضان على جبريل , فيُصبحُ رسولُ اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم مِن لَيْلَته التي يعرضُ فيها ما يعرض وهو أَجْوَد من الرِّيح المرْسَلَة , لا يُسألُ عن شيء إلاَّ أعطاه , حتَّى كان الشَّهر الذي هلكَ (أي تُوفِّيَ) بعده , عرضَ فيه عرضَتَيْن (أي مرَّتين) . (مسند الإمام أحمد بن حنبل – الجزء 1 – ص 326 – رقم الحديث 3012) .
ولَم ينزل القرآنُ بالتَّرتيب الحالي الذي نَعرفُه اليوم , وإنَّما كانت الآيات تنزلُ بِحَسَب الأحداث , فكان النَّبيُّ محمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم يقول لِكُتَّاب الوحي : ضَعُوا الآية كذا في موضع كذا من السُّورة كذا .
فقد روى الحاكم في مُستدركه عن عثمان بن عفَّان رضي اللَّه عنه , أنَّ رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم كان يأتي عليه الزَّمان تنزلُ عليه السُّوَر ذوات عدد , فكان إذا نزلَ عليه الشَّيء يَدعُو بعضَ مَن كان يكتبُه , فيقول : ضَعُوا هذه في السُّورة التي يُذكَر فيها كذَا وكذَا , وتنزلُ عليه الآية فيقولُ : ضَعُوا هذه في السُّورة التي يُذكَر فيها كذَا وكذَا . (المستدرك على الصّحيحين – الجزء 2 – ص 241 – رقم الحديث 2875) .
ولَمَّا تُوفِّيَ النَّبيُّ صلَّى اللَّه عليه وسلَّم , كانَ المئاتُ من الصَّحابَة يحفظون القرآن كاملاً عن ظهر قَلْب . لكن وقعت معركةٌ شديدة في عهد الخليفة الأوَّل أبي بكر الصِّدِّيق , بين المسلمين وبين بعض العرب الذين التفُّوا وراء رجُلٍ اسمه مُسَيْلمة , ادَّعَى النُّبوَّة . فاستُشهِد في هذه المعركة , وهي معركة اليمامة , عدد كبير من حُفَّاظ القرآن , مِمَّا دَفعَ بالصَّحابي عمر بن الخطَّاب أن يَطلب من أبي بكر أن يَجمع القرآنَ في مصحف واحد مكتوب .
فقد روى البَيْهقي في سُنَنه عن زيد بن ثابت رضي اللَّه عنه , قال : بعثَ إليَّ أبو بكر رضي اللَّه عنه , مَقْتَل أهل اليمامة (أي إثر معركة اليمامة) , وعندهُ عُمَر (بن الخطَّاب) رضي اللَّه عنه . فقال أبو بكر : إنَّ عُمَر أتاني فقال : إنَّ القتل قد استحر (أي اشتدَّ وكَثُر) يَومَ اليمامة بقُرَّاء القُرآن , وإنِّي أخشَى أن يستحر القتلُ بقُرَّاء القرآن في المواطن كلِّها (أي في المعارك الموالية مع الكفَّار) فيذهب قرآنٌ كثيرٌ , وإنّي أرى أن تأمرَ بِجَمع القرآن . قلتُ : كيف أفعلُ شيئًا لَمْ يفعلْهُ رسولُ اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم ؟! فقال عمر : هو واللَّهِ خير . فلَمْ يَزلْ عُمَر يُراجعُني في ذلك حتَّى شرحَ اللَّهُ صدري لِلَّذي شرحَ له صدْرَ عُمَر , ورأيتُ في ذلك الذي رأى عُمَر .
قال زيد : ثمَّ قال لي أبو بكر : وإنَّك رجلٌ شابّ عاقل , لا نتَّهمُك , قد كنتَ تكتبُ الوحيَ لِرسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم , فَتَتَبَّعِ القرآنَ فاجمعهُ .
فَوَاللَّهِ لَو كَلَّفَني بنَقْلَ جبل من الجبال ما كانَ بأثْقَلَ عَلَيَّ مِمَّا كلَّفني من جمع القرآن ! فقلتُ : كيفَ تفعلان شيئًا لَمْ يفعلْهُ رسولُ اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم ؟! فقال أبو بكر : هو واللَّهِ خير . فلَمْ يَزلْ يُراجعُني في ذلك حتَّى شرحَ اللَّهُ صدري لِلَّذي شرح له صدْرَ أبي بكر وعُمر , ورأيتُ في ذلك الذي رأيَا . فتتبَّعتُ القرآنَ أجمعهُ من العسب والرِّقاع واللِّخاف وصدور الرِّجال , فوجدتُ آخر سورة التَّوبة : { لقد جاءكُم رسولٌ من أنفُسكُم ... } إلى آخر السُّورة , مع خُزيْمة وأبي خُزيمة , فألحَقْتُها في سورتها . فكانت الصُّحُف عند أبي بَكر حياتَه , ثمَّ عند عُمَر حياتَه حتَّى تَوَفَّاهُ اللَّه , ثمَّ عند حفصة بنت عُمَر . (سنن البيهقي الكبرى – الجزء 2 – ص 40 – رقم الحديث 2202) .
قال ابنُ حجر العسقلاني في كتابه فتح الباري في شرح صحيح البخاري : كان القرآنُ قد كُتِبَ كلّه في حياة النَّبيّ محمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم , ولكنَّه لَم يَكُن مجموعًا في مكان واحد .
فلَمَّا اختِيرَ زيدُ بن ثابت لِجمع القرآن , وكان أحد كتَّاب الوحي الممَيَّزين في حياة النَّبيّ محمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم , وكان يحفظُ القرآن كاملاً , استعانَ في مهمَّته الثَّقيلة هذه بثلاثة آخرين من حُفَّاظ القرآن المعروفين بأمانتهم . وبالرَّغم من أنَّهم الأربعة كانُوا يحفظون القرآن عن ظهر قلب , إلاَّ أنَّ زيدًا , زيادةً في الحيطة , كان خلال جمعه للقرآن لا يَقبلُ إلاَّ ما كُتِبَ في حياة النَّبيِّ محمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم وشهد شاهدان ثقات بصحَّته .
تَمَّ جمعُ القرآن إذًا في مصحف واحد في عهد الخليفة الأوَّل أبي بكر الصِّدِّيق , وبقي كذلك في عهد الخليفة الثَّاني عمر بن الخطَّاب . فلمَّا تولَّى عثمانُ بن عفَّان الخلافة بعد عُمَر , كلَّف زيدَ بن ثابت بجمع القرآن مرَّة ثانية , ثمَّ بعثَ نُسَخًا منه إلى أنحاء الدّولة الإسلاميَّة . والسَّببُ في ذلك ما رواه النّسائي في سُنَنه عن أنس بن مالك رضي اللَّه عنه , أنَّ حُذَيْفة (بن اليَمان) قدم على عثمان (بن عفَّان) , وكان يُغازي أهل الشَّام مع أهل العراق في فتح أرمينية وأذربيجان , فأفزعَ حُذَيفةَ اختلافَهم في القرآن , فقالَ لِعُثمان : يا أمير المؤمنين , أدْرِكْ هذه الأمَّة قبل أن يختلِفُوا في الكتاب كما اختلفَت اليهودُ والنَّصارى ! فأرسلَ عُثمانُ إلى حَفصة أن أرسلِي إلينا بالصُّحُف ننسخُها في المصاحف ثمَّ نَرُدُّها إليكِ . فأرسلَتْ بها إليه , فأمَر زيدَ بن ثابت , وعبد اللَّه بن الزُّبير , وسعيد بن العاص , وعبد الرَّحمن بن الحارث بن هشام , أن يَنسخُوا الصُّحُف في المصاحف , فإن اختلفُوا وزيدَ بن ثابت (أي إن اختلف الثَّلاثة القُرَشيُّون مع زيد) في شيء من القرآن , فاكتبوهُ بلسان قُرَيْش , فإنَّ القرآنَ نزلَ بلسانهم . ففعلُوا ذلك , حتَّى إذا نَسخُوا الصُّحُف في المصاحف , رَدَّ عُثمانُ الصُّحُفَ إلى حفصة , وأرسلَ إلى كُلِّ أُفُقٍ مُصحفًا مِمَّا نسخُوا . (السّنن الكبرى – الجزء 5 – ص 6 – رقم الحديث 7988) .
والاختلاف الذي ذكَره حُذَيْفة هنا في القرآن , هو اختلاف اللَّهجات بين أهل الحجاز وأهل سوريا وأهل العراق . وكلُّ مَن يجوبُ الأقطارَ العربيَّة اليوم يُلاحظ اختلافَ العرب في نُطق بعض الحروف , مثل القاف , والجيم , وغيرهما . وهذا ما دعا الخليفةَ عثمان بن عفَّان رضي اللَّه عنه أن يجمع القرآن مرَّة ثانية . وكُلِّفَ زيدُ بن ثابت مرَّة أخرى بهذه المهمَّة الثَّقيلة مع ثلاثةٍ من الصَّحابة , وجُمِع القرآنُ مرَّة أخرى في مصحف واحد سُمِّيَ بِمُصحف عثمان . ثمَّ وقعَت كتابة بعض النُّسخ منه , أرسِلَتْ إلى الكوفة , والبصرة , وسوريا , وقيل : وأيضًا إلى اليمن , والبحرين , ومكَّة . واحتفَظَ عثمان بنسخة في المدينة , ونسخة أخرى في بيته .
ومنذ ذلك اليوم , أصبحت هذه النُّسخة من مُصحف عُثمان هي النُّسخة الوحيدة المعتَمَدة في طبع القرآن في كلِّ بقاع العالم .
هكذا إذًا أُنْزلَ القرآن , وهكذَا حفظه اللَّه تعالى من التَّحريف والزّيادة والنُّقصان , وسيبقَى محفوظًا إلى يوم القيامة .
---------------------- 5
لماذا ترك الفَنَّ والشُّهرة واعتنق الإسلام ؟!
نختم هذا الجزء بقصَّتين واقعيّتين :
القصَّة الأولى في إسلام السَّيِّد Cat Stevens , المغنِّي الانجليزي الذي اشتهر نجمُه في موسيقى البوب (pop music) في بداية السَّبعينات , والذي أَطلق على نفسه بعد إسلامه اسم يوسف إسلام .
يقول Cat : كانت أسرتي تَدينُ بالمسيحيَّة , فتربَّيْتُ على تلك الدِّيانة , وتعلَّمتُ أنَّ اللَّه موجود ولكن لا يُمكنُنا الاتِّصالُ به مباشرة , بل لا بُدَّ أن يكون ذلك عن طريق عيسى عليه السَّلام ! وبالرَّغم من اقتناعي الجزئي بهذه الفكرة إلاَّ أنَّ عقلي لم يتقبَّلْها بالكُلِّيَّة ! وكنتُ أنظرُ إلى تماثيل النَّبيِّ عيسى , فأراها حجارةً لا حياة فيها ! وكانت عقيدةُ التَّثليث تُحيِّرُني وتُقلقُني , ولكنَّني لم أكن أناقشُها احترامًا لِمُعتقدات والديَّ .
ثمَّ بدأتُ أبتعدُ شيئًا فشيئًا عن نشأتي الدِّينيَّة , وانخرطتُ في مجال الموسيقى والغناء , وكنتُ أطمحُ أن أُصبحَ مغنِّيًا مشهورًا . وأخذَتْني تلك الحياة البرَّاقة بِمَباهجها ومفاتنها , فأصبحَتْ هي إلهي , وأصبح الثَّراءُ المطلَق هو هدفي . وبالطَّبع , كان للمجتمع من حولي تأثيرٌ بالغ في ترسيخ هذه الفكرة بداخلي , حيثُ أنَّ الدُّنيا كانت تعني لهم كلّ شيء .
وانغمستُ في هذه الحياة بكلِّ طاقتي , وقدَّمتُ الكثير من الأغاني , وحققَّتُ نجاحًا واسعًا خلال فترة قصيرة , وأصبحتُ نجمًا عالَميًّا وأنا لَمْ أتَعَدَّ التَّاسعة عشر من عمري ! ووصلَتْ مُعظَم أغانيَّ إلى قمَّة المسابقات العالميَّة في أواخر السِّتِّينات وأوائل السَّبعينات , وحقَّقَتْ ألبُوماتي نجاحًا تجاريًّا وأرقامًا قياسيَّة في المبيعات , واجتاحتْ صُوَري وأخباري وسائل الإعلام المختلفة . ولَم يكنْ يشغلُني طوال تلك الفترة سوى الحصول على المال والشُّهرة والمجد , مِمَّا أنساني الدِّينَ تَمَامًا .
بعد مُضيِّ عام تقريبًا من النَّجاح المادِّي وتحقيق الشُّهرة , أُصِبْتُ بمرض السُّلّ ودخلتُ المستشفَى لِفتْرة طويلة . وكانت هذه الأزمة فرصة لي لِأَتأمَّل في حالي وأُعيد التَّفكير في هدفي في هذه الحياة . فبدأتُ أقرأُ في الدِّيانات الشَّرق آسيويَّة التي كانت سائدة في ذلك الوقت , وبدأتُ لِأوَّل مرَّة أُفكِّر في الموت . وأهمُّ ما توصَّلتُ إليه في تلك المرحلة أنَّني لستُ جسدًا فقط , وإنَّما أنا جسدٌ وروح , وأنَّه لا بُدَّ أن يكون هناك انسجامٌ بين الاثنين .
بعد شفائي من مرضي , عدتُ إلى عالَم الموسيقى والغناء ثانية , ولكن في هذه المرَّة بدأَتْ أغانيَّ تعكسُ أفكاري وقَناعاتي الجديدة . وازدادَتْ شُهرتي في هذا الميدان , ولكنَّني كنتُ أعاني في نفس الوقت من صراع داخلي لأنَّني كنتُ أبحثُ عن الحقيقة .
واقتنعتُ وقْتَها أنَّ البوذيَّة قد تكون عقيدة نبيلة وراقية , ولكنَّني لَم أكُن مستعدًّا أن أتفرَّغ للعبادة وأنعزل عن العالَم , لأنَّني كنتُ متعلِّقًا بالدُّنيا . فحاولتُ أن أجد ضالَّتي في علْم الأبراج والأرقام , ثمَّ في معتقدات أخرى , ولكنَّني لم أقتنع بأيّ شيء منها . ولم أكنْ حتَّى تلك اللَّحظة أعرفُ شيئًا عن الإسلام .
وصادفَ أن سافر أخي الأصغر David إلى القُدس , وعاد مبهورًا بالمسجد الأقصى وبالحيويَّة التي تعجُّ بين جَنَباته , على خِلاف الكنائس المسيحيَّة والمعابد اليهوديَّة التي دائمًا ما تكون خاوية ! وأحضَر لي أخي من القُدس نسخة مُترجَمة لِمعاني القرآن الكريم بالانجليزيَّة . وعلى الرَّغم من أنَّه لَم يَعْتنق الإسلام , إلاَّ أنَّه أحَسَّ بشيء غريب تُجاه هذا الكتاب , وتَوَقَّع أن يُعجبَني وأن أجد فيه ضالَّتي .
فقرأتُ الكتاب , ووجدتُ فيه فعلاً ما كنتُ أبحثُ عنه : وجدتُ فيه أجْوبَة عن حقيقة الكون , وأصل البشريَّة , ومن أين أتيتُ , والهدف من الحياة . وعندها أيقنتُ أنَّ الإسلام هو الدِّين الحقُّ , وأنَّ حقيقته تختلف عن فكرة الغرب عنه , وأنَّه ليس مجرَّد طقُوس لِكبار السِّنِّ مثل المعتقدات الأخرى .
وأدركتُ أنَّ كلَّ شيء هو مِن خَلْق اللَّه وصُنعه , وأنَّ اللَّه لا تأخذه سِنَةٌ ولا نوم , وأنَّه أرسلَ الأنبياء برسالة واحدة . ووجدتُ في القرآن ردُودًا منطقيَّة ومعقولة عن ادِّعاء النَّصارى أنَّ عيسى ابنُ اللَّه . وأُعجبتُ بأسلوب هذا الكتاب في دعوته إلى التَّفكُّر والتَّأمُّل وإعمال العقل للوصول إلى الحقيقة , واقتنعتُ أنَّه ضالَّتي المنشودة , وضعَها اللَّهُ في طريقي .
لَم أعتنق الإسلام وقْتَها , ووجدتُ صعوبة في ذلك لأنَّ كلَّ مَن حولي كانُوا لا يعرفُون شيئًا عن هذا الدِّين . ثمَّ فكَّرتُ في الذّهاب إلى القُدس , مثلما فعل أخي , لزيارة المسجد الأقصى . فسافرتُ إلى هناك , وبين جَنَبات هذا المسجد المهيب قرَّرتُ الدُّخول في الإسلام . فعدتُ إلى لندن , وقابلتُ أختًا مسلمة اسمُها نفيسة , وأخبرتُها برغبتي في اعتناق هذا الدِّين . فدلَّتْني على أحد أكبر المساجد في بريطانيا , وكان ذلك سنة 1977 م , بعد حوالي سنة ونصف من بداية قراءتي لترجمة معاني القرآن الكريم . ويوم الجمعة , بعد الصَّلاة , اقتربتُ من الإمام ونطقتُ بالشَّهادتين بين يديه .
والآن , أصبحتُ أستطيع أن أدعو اللَّه مباشرة في كلِّ وقت , على خلاف المسيحيَّة والدِّيانات الأخرى ! وأذكرُ أنَّ سيّدةً هندوسيَّة قالتْ لي يومًا : نحنُ نؤمنُ بإله واحد , ولكنَّنا نستخدمُ هذه التَّماثيل للتَّركيز ! معنَى كلامها أنَّه يجبُ أن تكون هناك وسائط لِتَصِلَنا باللَّه ! لكنَّ الإسلام أزال كلَّ هذه الوسائط والحواجز .
بعد إسلامي , شعرتُ براحة نفسيَّة كبيرة , وتخلَّصتُ من أفكاري المتناقضة والتي لا حصر لها , وصار الطَّريقُ واضحًا أمامي . وقطعتُ على نفسي عهدًا أن أُسَخّر حياتي لخدمة هذا الدِّين والدَّعوة إليه ونَقْل تجربتي للآخرين .
هذه إذًا قصَّة إسلام السَّيِّد Cat Stevens الذي وُلِدَ في 21 يوليو 1948 م من أب يوناني وأمّ سويديَّة , وهو يُسمَّى اليوم يوسف إسلام . وقد تعدَّدت نشاطاتُه بعد إسلامه , حيثُ أنشأ عام 1986 م جمعيَّة للمعونة الإسلاميَّة , وتولَّى رئاسة أربع جمعيَّات تهتمُّ بالتَّعليم وحقوق الإنسان , وصار أحد أبرز أعضاء المجلس الإسلامي الأعلى في بريطانيا , وتولَّى مهمَّة تصحيح العديد من المفاهيم الغربيَّة الخاطئة عن الإسلام .
أنشأ مدرسة إسلاميَّة في كيل بورن , شمال لندن , لتعليم الأطفال القرآنَ والسُّنَّة وكيفيَّة أداء العبادات الإسلاميَّة . ونتيجة لنشاطاته ومَركزه , فقد قبلَت الحكومة العراقيَّة وَساطَته أثناء اندلاع حرب الخليج الأولى , وأفرجتْ عن أربعة أسرى إنجليز . كما وافقَت الحكومتان السّعوديَّة والكويتيَّة إقامة مُخيَّمات على حدودهما لِفَريقٍ من دُعاة السَّلام , على رأسهم يوسف إسلام . قام بالعديد من الزِّيارات إلى البُوسنة , وعقَدَ العديد من الحفلات الدِّينيَّة في سَراييفُو .
تحوَّل إلى الإنشاد الدِّيني , وأصدر ألبومًا أوَّلاً تضَمَّن أغنيةً عن النَّبيِّ محمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم . ثمَّ أصدر ألبومًا آخر سنة 1997 م عن مأساة حرب البُوسنة . سجَّل أيضًا عددًا من الأغاني الإسلاميَّة للأطفال , وُزِّعتْ منها ملايين النُّسَخ في العالَم الغربي والإسلامي . (نقلاً , مع تصرّف بسيط في سرد القصَّة , عن موقع مجلَّة رياض الجنَّة
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط] , وعن موقع الشَّبكة الإسلاميَّة
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط] .
---------------------- 5
هكذا أوصله عقلُه إلى الإسلام !
القصَّة الثَّانية في إسلام : علي سلمان بنوا , وهو طبيبٌ من أسرة فرنسيَّة كاثوليكيَّة . يروي علي قصَّة إسلامه , يقول : كنتُ أؤمن بوجود اللَّه , إلاَّ أنَّ الطُّقوس الدِّينيَّة المسيحيَّة لم تكُن لِتَبعث في نفسي الإحساس بوجوده ! وقد كان شعوري الفطري بوحدانيَّة اللَّه يَحُولُ بيني وبين الإيمان بعقيدة التَّثليث , وبتأليه عيسى المسيح !
كنت لا أستسيغُ دعوى الكاثوليك أنَّ مِن سُلطانهم مغفرةَ ذنوب البشَر نيابةً عن اللَّه , ولم أكن أؤمن أبدًا بالعشاء الرَّبَّاني والخبز المقدَّس الذي يُمثِّل جسد المسيح . ومِمَّا كان يُباعدُ بيني وبين المسيحيَّة أنَّها لا تحوي في تعاليمها شيئًا يتعلَّق بطهارة البدَن , لا سيَّما قبل الصَّلاة , فكنتُ أرى في ذلك انتهاكًا لِحُرمة الرَّبّ . كذلك , فإنَّ المسيحيَّة التزمت الصَّمت في ما يتعلَّق بغرائز الإنسان الفيزيولوجيَّة , بينما نرى أنَّ الإسلام هو الدِّين الوحيد الذي ينفرد بمراعاة الطَّبيعة البشريَّة .
أمَّا العامل الأساسي في اعتناقي للإسلام , فهو القرآن الكريم . وأنا مَدينٌ بالفضل إلى الأستاذ مالك بن نبي , صاحب كتاب الظَّاهرة القرآنيَّة . فقد اقتنعتُ بعد قراءتي لهذا الكتاب بأنَّ القرآن هو حقًّا وحيٌ مُنَزَّل من عند اللَّه . وعرفتُ أيضًا أنَّ بعض آياته أشارت منذ حوالي أربعة عشر قرنًا إلى حقائق علميَّة لم يتمَّ اكتشافها إلاَّ حديثًا .
وهكذا ذهبتُ يوم 20-2-1953 م إلى مسجد باريس , وأعلنتُ إسلامي . فسجَّلني عميد المسجد في سجلاَّت المسلمين , وحملتُ اسمي الجديد : علي سلمان . وأنا أشعر اليوم بالغبطة الكاملة في ظلِّ عقيدتي الجديدة , وأُعلن مرَّة أخرى : أشهد أن لا إله إلاَّ اللَّه وأشهد أنَّ محمَّدًا عبده ورسوله . (نقلاً , مع تصرّف بسيط في سرد القصَّة , عن موقع
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط] .
---------------------- 5