أصل الإنسان
يطرح على عزت بيجوفيتش التصور الداروينى (المادى) للإنسان، فيتحدث عن إشكالية الأصل. فكل المخلوقات حسب التصور الداروينى المادى ترجع إلى الأشكال البدائية للحياة (الأميبا)، والتى ظهرت بدورها نتيجة عملية طبيعية كيميائية [مادية]. إن الإنسان فى الحقيقة (من هذا المنظور) إن هو إلا حيوان تطور من المادة إلى الأميبا، والأميبا تطورت حتى وصلت إلى القردة العليا، ومنها إلى الإنسان “الذى اتجه نحو الكمال الجسمى والفكرى ومنه إلى الذكاء الخارق. فالتطور من حيث هو حيوانى وخارجى فى جوهره بسيط ومنطقى أو نفعى ووظيفي، لأنه ظل محدودًا فى نطاق الطبيعة/المادة”. إن “التطور” بطبيعته (وبغض النظر عن درجته فى التعقيد أو الحقبة الزمنية التى استغرقها) لم يستطع أن ينتج إنسانا، وإنما مجرد حيوان مثالى، قادر على التحرك داخل الجماعة بكفاءة عالية لتحقيق هدف البقاء المادى. فثمة أشياء مشتركة أكيدة بين الإنسان و الحيوان، ثمة أشياء مشتركة أكيدة بين الإنسان والحيوان.. “فهناك شعور وذكاء ووسيلة أو أكثر من وسائل الاتصال، وهناك الرغبة فى إشباع الحاجات، والالتحاق بمجتمع، وبعض أشكل الاقتصاد”. بالنظر من هذه الزاوية.. فليس فى الإنسان شىء لا يوجد أيضا فى المستويات العليا من الحيوانات الفقارية والحشرات. والفرق بين الإنسان والحيوان، حتى بعد “تطور” الإنسان، إنما هو فرق فى الدرجة والمستوى والتنظيم وليس فى النوع، فليس هناك (حسب هذه النظرية المادية) جوهر إنسانى متميز.
ولكن الإنسان فى واقع الأمر مختلف بشكل جوهرى عن هذا الإنسان الطبيعى/المادى، فهو ليس مجرد وظائفه البيولوجية، إذ أن فيه “شيئًا” ينقله من عالم الضرورة والحتميات الطبيعية والسببية المطلقة والمنفعة المادية.. إلى عالم الحرية والاختيار والقلق والتركيب والتضحية.
الدّوَار الميتافيزيقى واللحظة الفارقة
يرى على عزت بيجوفيتش أن ثمة شىء ما حدث للإنسان جعله لا يقنع بجانبه الطبيعى المادى الحيوانى ودفعه إلى أن يبحث دائما “عن شىء آخر غير السطح المادى الذى تدركه الأسماع والأبصار وصولاً إلى ما لا تدركه الأسماع والأبصار” (ولنسمه “المقدس”)، بحيث بدأ يفكر فى معنى حياته وفيما وراء الطبيعة، “فيما وراء القبور”. ما هذا الشيء الذى جعل الإنسان لا يكتفى “بصنع الآلات التى تحسّن من مقدرته على البقاء المادي، وبدلا من ذلك بدأ فى صنع العبادات والأساطير والمعتقدات الخرافية والغريبة والرقصات والأوثان والسحر وأفكاره عن الطهارة والنجاسة والسمو واللعنة والبركة والقداسة والمحرمات والمحظورات الأخلاقية التى تشمل حياته بأسرها..؟ ما الذى جعل الإنسان لا يقنع بالدلالة المباشرة للأشياء، وإنما يضيف لها دلالة متخيّلة تكون أكثر أهمية فى نظره من دلالتها الواقعية؟” فبينما يذهب الحيوان للصيد مباشرة ويوظف كل ذكائه فى اصطياد الفريسة ويستجيب للمثيرات المادية التى من حوله بشكل مباشر “يحيط الإنسان مثل هذا الفعل بطقوس وأحلام وصلوات، وبينما كان الحيوان يتابع فريسته بمنطق صارم، كان الإنسان يقدم الضحايا والقرابين ويقيم الصلوات والشعائر (الصوم مثلا). وبينما كان النحل يقضى على كل أعضاء جنسه ممن لا فائدة لهم ولا نفع، كان الإنسان يكرّم المسنين والموتى ويقيم الشعائر الجنائزية، وبينما تتعامل الحيوانات مع عالم السطح الظاهر المادى فى وظيفية مدهشة، يغوص الإنسان إلى أعماق حقيقية ومتخيلة، داخله وخارجه، ومن هنا تظهر أهمية النية وأهمية الإلهام”.
“وبينما تؤدى الحيوانات وظائفها فى حتمية بالغة: تتقدم نحو فريستها حينما تسنح الفرصة، وتفر حينما تحس بالخطر، وتعيش فى القطيع أو السرب أو الخلية دون فزع أو اكتئاب.. فإن الإنسان دائم التردد، وسلوكه مرتبط بحريته واختياراته المتنوعة، فهو لا يمكن أن يكون جزءًا من آلية وظيفية اجتماعية مقررة مسبقا. ثم هناك هذا الخوف والقلق الذى يشعر به الإنسان من خلال تأمله الدائم فى الكون ومعضلاته، وهو ليس مجرد خوف بيولوجى (مثل ذلك الذى يستشعره الحيوان)، إنما هو خوف روحى كونى بدائى، موصول بأسرار الوجود الإنسانى وألغازه، وممتزج بحب الاستطلاع والإعجاب والدهشة والنفور. تلك المشاعر المختلطة هى العامل الخالد الأزلى المحدد لوجود الإنسانى (هايدجر)، وهى تكمن فى أعماق الثقافة الإنسانية.
يرى على عزت بيجوفيتش أن الإنسان أصيب بدوار مجهول الأصل ليس له سبب مادى ملموس، ولذا يسميه “الدوار الميتافيزيقى”، وهو دوار يشكل لحظة فارقة فى تاريخ البشرية، ذلك أنه إلى جانب الإنسان الصانع (باللاتينية: هومو فابر homo Faber) الذى أدت إليه عملية التطور، وجد الإنسان العاقل (باللاتينية: هومو سابين homo sapiens) وهو إنسان مختلف عن الحيوان وعن إنسان داروين الطبيعي، فهو إنسان ذو عقل وخيال ووجدان، يحس بأنه جزء من الطبيعة وغريب عنها فى ذات الوقت، إذ توجد مسافة تفصله عنها. ولذا فهو يشعر بأن ثمة عالما آخر يحتاج للتعبير عنه والتواصل معه، فيميل الإنسان (بغض النظر عن مستوى تقدمه أو تخلفه التكنولوجى) نحو الرسم والغناء وتقديم القرابين ولإقامة شواهد القبور. فهو يشعر بأن هناك فى داخله ما يميزه عن الحيوانات التى قد تصنع الآلات (كالقردة التى تستخدم العصا للوصول إلى الموز فى أعلى الشجرة، أو الدب الذى يستخدم الحجر لقتل أعدائه)، ولكنها لا يمكن أن تقدم أية قرابين أو ترسم أية لوحات ولا تشعر بوخز الضمير.
ومن الواضح أن الدوار الميتافيزيقى فصل الإنسان عن عالم الطبيعة/المادة، ولذا فهو يقف متعاليا عليها رغم وجوده فيها، ومن هنا نشأت ثنائية الطبيعى المادى من جهة والإنسانى/ الروحى من جهة أخرى. وحتى ندرك أبعاد هذا المفهوم المحورى فى فكر على عزت بيجوفيتش لابد أن نميز بين كل من التوحيد والواحدية، إذ إنهما يقفان على طرفى نقيض. فالتوحيد هو الإيمان بإله واحد منزه عن الطبيعة والتاريخ (ليس كمثله شىء)، مما يعنى ثنائية الخالق والمخلوق، وهذا مقتضى النموذج الإيمانى الذى يقول إن الله خلق العالم ولم يحل فيه، بمعنى أن الخالق غير متعادل مع مخلوقاته. بعكس المنظومات المادية التى لا يوجد فيها إلا جوهر واحد هو الجوهر المادى، ولذا فهى منظومات واحدية. ولو افترض أن آمن مادى بإله، فهذا الإله لابد أن يكون حالا فى المادة، ومن هنا فإننى أقول دائما: إن كثيرًا من كلام أهل الحلول من دعاة وحدة الوجود هو فى جوهره مادي، حتى وإن استخدموا مصطلحات صوفية إيمانية، لأن من يؤمن بوجود جوهر واحد فى الكون يؤمن بالواحدية ولا يؤمن بالتوحيد، إذ التوحيد يعنى أن الله مفارق للمادة منزه عنها. وهذه الثنائية غير الأثنينية التى سادت فى بعض المنظومات الوثنية، والتى تذهب إلى أن الكون يحكمه عنصران متعادلان متساويان. إن ثنائية الوجود الإنسانى (ثنائية المادى والروحى) لا يمكن تفسيرها وضمان بقائها واستمرارها إلا بافتراض ثنائية أخرى، هى ثنائية الخالق والمخلوق، ثنائية تأسيسية لا يمكن ردها إلى ما هو خارجها. ومن هنا يرى على عزت بيجوفيتش أن الإنسان بصفة أساسية لا يوجد “إلا بفعل الخلق الإلهى”. ومن ثم، إذا لم يكن هناك إله فلن يوجد إنسان (استخدم الشيخ القرضاوى مصطلح “الثنائية التكاملية” للتعبير عن الفكرة نفسها).[b]