أسطورة الصدفة
وهنا يمكن أن ننتقل إلى السؤال المعرفى الذى طرحه على عزت بيجوفيتش وهو السؤال المتعلق بأصل الإنسان. عادة ما يلجأ الإيمانيون إلى الهجوم على نظرية التطور الداروينية التى تؤكد الأصل المادى للإنسان، محاولين تفنيدها وإثبات “عدم علميتها” ووجود ثغرات فيها، من خلال الإشارة إلى دلائل مادية ونظريات علمية عديدة. وهذا الأسلوب فى التفنيد مهم، ولكنه ليس حاسما؛ لأن دعاة النظرية الداروينية سيأتون هم أيضا بأدلة مادية، مما يجعل من المستحيل حسم القضية. أما على عزت بيجوفيتش فيلجأ لأسلوب مختلف تماما. فهو يحاول أن يثبت عجز النموذج الداروينى فى التطور عن تفسير ظاهرة الإنسان فى سياق الثنائية الجوهرية التى أشرنا إليها، أى ثنائية الإنسانى والطبيعى.
يبدأ على عزت بيجوفيتش تقويضه النظريات المادية بأن يبين أن من المستحيل تصديق فكرة أن العالم قد ظهر نتيجة تفاعلات كيمائية تمت بالصدفة وأدت إلى ظهور خلايا بسيطة ثم تطورت إلى أن أصبحت “الإنسان”. وفرضية الصدفة هذه تقع فى صميم نظرية التطور وكل النظريات المادية. يبين على عزت بيجوفيتش أن خلق العالم بالصدفة هو مجرد افتراض وتخمين وليس حقيقة. ومن أشهر الاعتراضات على هذه الفرضية أن الإيمان بها يعادل الإيمان باحتمال أن يقوم فرد بالخبط على آلة كاتبة فيكتب لنا قصيدة رائعة أو باحتمال أن يلقى إنسان (أو قرد) بالنرد ويحالفه الحظ ويأتى 6/6 ليس مرة واحدة ولا ألف مرة وإنما 44 ألف مرة متتالية! كما أن المصادفة وحدها لا تجدى فى تفسير الخلق، فإن تكوين الكائنات من تلك الذرات الهائمة يعنى أنها كانت مصممة، بحيث أنها إذا اجتمعت بهذه الطريقة تكوَّن منها ذهب، وإذا اجتمعت بتلك الطريقة يتكون منها ماء، وهكذا.. أى أن التصميم لابد وأن يسبق الصدفة.
ثم يضرب على عزت بيجوفيتش مثالاً آخر يبيّن مدى لاعقلانية المؤمنين بنظرية النُّشوء من خلال الصدفة فيقول: “إذا وجدنا في اكتشاف أثري حجرين موضوعين في نظام معين أو قُطعًا لغرض معين، فإننا جميعا نستنتج بالتأكيد أن هذا من عمل إنسان ما في الزمان القديم. فإذا وجدنا بالقرب من الحجر جمجمة بشرية أكثر كمالا وأكثر تعقيدًا من الحجر بدرجة لا تقارن، فإن بعضا منا لن يفكر في أنها من صنع كائن واع، بل ينظرون إلى هذه الجمجمة الكاملة أو الهيكل الكامل كأنهما قد نشأ بذاتهما أو بالصدفة هكذا.. بدون تدخل عقل أو وعى!”.
“أما هؤلاء الذين يرون أن المادة (من خلال الصدفة وحدها) قد أدت إلى ظهور عناصر متجاوزة للمادة مثل الإنسان والوعى والعقل والغائية، فهم -فى نهاية الأمر- ينسبون للمادة قُدرات غير مادية، ومن ثم فإنهم يكونون قد خرجوا بذلك عن مقاصد الفلسفة المادية، خصوصا وأن فرضياتهم لا تعدو كونها تكهنات عنيدة طفولية تضمن لهم الاستمرار فى ماديتهم البسيطة، وتضمن لهم فى الوقت نفسه تفسير ما حولهم من تركيب ووعي وغائية”.
الإنسان والمقدس
ولا يكتفى على عزت بيجوفيتش بالتأكيد على أن فكرة الصدفة ليست فكرة من الصعب تصديقها وأنها ليست فكرة علمية أكيدة كما يدّعون، وإنما فكرة تخمينية، ليست نتيجة عملية تجريبية أو ملاحظة علمية وإنما نتيجة عملية عقلية محضة تحاول سد ثغرة فى النظام المادى وتدعى أنها علم.. لا يكتفى علي عزت بيجوفيتش بذلك، بل يلجا إلى طريقة أكثر حسما وهى توضيح العجز التفسيرى الكامل لنظرية التطور فى تناولها الظواهر الإنسانية. وهو ينجز ذلك عن طريق استخدام نموذج مركب يأخذ فى الاعتبار كلا من العناصر المادية والإنسانية.
ولذا نجده يشير إلى أن النظرية الداروينية لم تكرس اهتماما كافيا للظواهر الثقافية، لسبب بسيط، وهو أن هذه ” الظواهر ليست نتاج التطور (فهى تقف متعالية عليها، مفارقة لها)، ولذا يركز عليها على عزت بيجوفيتش، لأنها تحمل فى ثناياها إجابات عن بعض الأسئلة الحاسمة عن الوجود الإنسانى. فإذا كان هناك خط متصل “للتطور المادى ” يؤكد على الكفاءة والمنفعة وتسخير الطبيعة والآلات، فهناك خط مواز للثقافة الإنسانية يؤكد على قيم مختلفة تماما لم يحدث فيها تقدم أو تطور (التضحية والضمير والخوف من الموت والمجهول) وعلى نشاطات إنسانية مختلفة (الفن والدين والأخلاق والفلسفة). وهذه القيم والنشاطات الإنسانية فرع سلالة واحدة تشير إلى وجود عالم آخر (نظام آخر) إلى جانب عالم الطبيعة وهى لا تعرف التقدم أو التطور. إن نظرية التطور الداروينية لا تفسر كيف لم يتغير تاريخ البشر الجُوّانىّ كثيرًا.. فالإنسان (بأخطائه، وفضائله، وشكوكه، وخطاياه، وكل ما يشكل وجوده الجُوّانىّ) يبرهن على عدم قابليته للتغيير. فدراسة رسوم إنسان نياندرتال فى فرنسا تبين أن الحياة النفسية للإنسان البدائى لا تختلف إلا قليلا جدًا عن الحياة النفسية للإنسان المعاصر.
لماذا أصيب الإنسان بالدوار الميتافيزيقى ..؟ لماذا توقف عن تحسين كفاءته فى الصيد ليقوم ببعض الشعائر التى لا معنى لها من منظور مادى نفعى ..؟ كان الإنسان يسأل عن كيفية البقاء وعن آليات الاستمرار، ثم بدأ يسأل فجأة عن المعنى والهدف من وجوده.. أى أنه بدأ يسأل لماذا ..؟.. “لو كنا حقا من أبناء هذا العالم، فلن يبدو لنا فيه شيء نجسًا أو مقدسًا، فهذه أفكار مناقضة للعالم الذي نعرفه. نحن لا نستطيع أن نجد أثرًا لعبادات أو محرمات أو مقدسات في أكثر أنواع الحيوانات تطورًا.
إن ظاهرة الحياة الجُوّانية أو التطلع إلى السماء ظاهرة ملازمة للإنسان، غريبة عن الحيوان. هذا الجانب من الإنسانية، وهذه الظواهر [الخير والشر، المقدس والمدنس، الشعور بالفجيعة، الصراع الدائم بين المصلحة والضمير، التساؤل عن وجودنا] تظلّ جميعها مستعصية على أى تفسير منطقى. ولكن إنطلاقا من الإيمان بثنائية الإنسان والطبيعة، والاختلاف الجوهرى بين الاثنين، وثنائية الطبيعة البشرية، يبين على عزت بيجوفيتش أن أصل الإنسان لا يمكن أن يكون ماديا فهو ليس نتيجة تطور مادي، فالعنصر الروحى فى الإنسان الذى يستعصى على التفسيرات المنطقية المادية لا يمكن أن يوجد إلا بفعل الخلق الإلهى، والخلق ليس عملية مادية وإنما فعل إلهى، ليس شيئًا متطورًا، وإنما هو فعل فجائى (كن.. فيكون). “فمنذ تلك اللحظة المشهودة، لم يعد ممكنا لإنسان أن يختار بين أن يكون حيوانا أو إنسانا، إنما اختياره الوحيد أن يكون إنسانا أو لا إنسان”. وبذلك ربط على عزت بيجوفيتش بين الإنسان وبين الله، بمعنى أن الإنسان لا يمكن أن يكون إنسانا إلا بوجود الله، فإن مات الله (كما يزعمون فى الحضارة الغربية) مات الإنسان، أو إن نسينا الله (كما نقول نحن) فإننا ننسى أنفسنا.
قضية الحرية
يركز على عزت بيجوفيتش على سمة إنسانية أخرى يقوّض من خلالها نظرية التطور البيولوجى المادى، وهى مقدرة الإنسان على الاختيار، أي قضية الحرية (وهنا يظهر أثر كانط عليه، وإن كان بيجوفيتش قد عمّق من هذه الأطروحة وطبقها بطريقة ربما لم تخطر على بال الفيلسوف الألمانى العظيم). ففى عالم الطبيعة/المادة توجد الأشياء وجودًا موضوعيا، خاضعا لقوانين موضوعية صارمة. فالأرض تدور حول الشمس سواء عرفنا أم لم نعرف، شئنا أم أبينا. ثمة حتمية مادية تسيطر على عالم الحقائق الموضوعية، وهو ما لا يمكن وصفه بالخير أو بالشر، فنحن فى هذا العالم لا نفعل ما نريد أن نفعله، بل ما علينا أن نفعله. ثمة جانب فينا خاضع للحتميات المادية، ولكن الإنسان لا يعيش فى عالم المادة وحسب، فهناك عالم جوانى قوامه الحرية التى تعبر عن نفسها فى النوايا والإرادة والشوق والرغبة.
أما خارج الإطار المادي فثمة حيز للإنسان يتحرك فيه بحيث يمكنه الاختيار بين بدائل مختلفة، فيختار -مثلا- أن يتجاوز البرنامج الطبيعي الحتمي ويقوم بفعل قد يبدو غير عملي وغير مفيد من الناحية المادية، مثل أن يدافع عن كرامته أو يرفض الظلم. والإنسان الذي ينطلق من الرؤية المادية قادر ولا شك على الاختيار والحرية والبذل والعطاء، ولكنه بذلك يكون قد سلك بطريقة تتناقض وماديته المزعومة، فقد تجاوز قوانين المادة. فهو إن ضحى بنفسه من أجل ابنه القعيد -مثلا- فإنه لا يمكنه إخضاع هذا الفعل للنموذج المادي، وعلينا أن نهنئ هذا المادي على نبله وعظمته التي تجاوز بها منظوره المادي! إذ أنه حين اختار أن يدافع عن ابنه ويحمله قد عبَّر عن شيء عظيم داخله يتجاوز منظومته المادية الواحدية.
إن قضية الخلق (كما يؤكد علي عزت بيجوفيتش) هي، في الحقيقة، قضية الحرية الإنسانية. فإذا قبلنا فكرة أن الإنسان لا حرية له، وأن جميع أفعاله محددة سابقا -إما بقوى مادية داخله أو خارجه- لا تكون الألوهية ضرورية في هذه الحالة لتفسير الكون وفهمه. ولكننا إذا سلمنا بحرية الإنسان ومسئوليته عن أفعاله، فإننا بذلك نعترف بوجود الله إما ضمنًا وإما صراحة. فالله وحده هو القادر على أن يخلق مخلوقا حرًّا، فالحرية لا يمكن أن توجد إلا بفعل الخلق. الحرية ليست نتيجة ولا نتاجا للتطور، فالحرية والإنتاج فكرتان متعارضتان. فالله لا ينتج ولا يشيد .. إن الله يخلق..!
“قد ينجح الإنسان (آجلا أو عاجلا، خلال هذا القرن أو بعد مليون سنة من الحضارة المتصلة) في تشييد صورة مقلدة من نفسه، نوع من الإنسان الآلي أو مسخ، شيء قريب الشبه بصانعه. وهذا المسخ الشبيه بالإنسان لن تكون له حرية، سيكون قادرًا فقط على أن يتحرك في إطار ما بُرمج عليه. وهنا تتجلى عظمة الخلق الإلهي، الذي لا يمكن تكراره أو مقارنته بأي شيء حدث من قبل أو سيحدث من بعد في هذا الكون. في لحظة زمنية من الأبدية، بدأ مخلوق حر في الوجود، بينما لم يكن ممكنا أن تتحول نتيجة التطور (بدون تلك اللمسة الإلهية) إلى الإنسان. إن التطور، بدون تلك اللمسة، كان سينتج -على الأرجح- حيوانا أكثر تطورًا، حيوانا مثاليا، أو كائنا بجسم إنسان وذكائه، ولكن بدون قلب ولا حياة جُوّانية. ذكاء متحرر من وخز الضمير والأخلاق، وربما كان أكثر كفاءة.. ولكن أشد قسوة في الوقت نفسه”.
“وترتبط بفكرة الخلق الإلهى فكرة الذات الإنسانية. وفى حقيقة الأمر.. كل شىء يمكن اكتشافه فى الطبيعة فيما عدا الذات الإنسانية أو الشخصية، إننا نتصل، فقط من خلال هذه الذات، باللانهائى، ومن خلالها وحسب نشعر بالحرية وندرك العالم الآخر الذى نتشارك معه فى ميراث واحد. الإنسان وحده فقط، يستطيع أن يشهد بوجود عالم الأرواح والحرية. وبدون الذات، يستحيل أن يشهد عالما وراء الطبيعة، ذلك لأن كل شىء آخر (بجانب ذات الإنسان) هو وجود برانى ظاهري. والتأمل استغراق فى الذات، محاولة للوصول، واكتشاف لهويتنا وحقيقة حياتنا ووجودنا… والوصول إلى الحقيقة الكبرى، السر الوحيد الأكبر، هذه الحقيقة تعنى كل شىء ولا شىء: كل شىء بالنسبة للروح، ولا شىء بالنسبة لبقية العالم”.
“وقل الشىء نفسه عن فكرة الخلود والبعث. فإحساس الإنسان بالخلود هو محاولته النظر فيما وراء القبور والبحث المجهد عن طريقة خارج هذا العالم الذى أصبح الإنسان فيه غريبا. وإذا غاب إحساس الإنسان بالخلود فإن الذات المرتبطة باللانهائى تغيب هى أيضا، ولا يبقى سوى المادة والعدم”.