ويتضح الاختلاف بين الإسلام والديانات الروحية المجردة فى هذه المقارنة التى يعقدها على عزت بيجوفيتش بين ما جاء فى الإنجيل وفى القرآن بخصوص العمل وفكرة العدالة.
وتتبدى الثنائية الإسلامية فى اهتمام الإسلام بكل من القراءة والكتابة باعتبارهما أقوى محرك للمجتمعات الإنسانية. فلا “غرابة أن يعنى بهما الوحى، فكانت أول ما نزل على محمد (صلى الله عليه وسلم) من آيات القرآن.(*) وقد تبدو الكتابة غريبة عن الدين (الروحى المجرد). فقد بقيت الأناجيل تقليدًا شفهيا لفترة طويلة من الزمن. وعلى قدر علمنا، بدأت كتابتها بعد جيل كامل من رفع عيسى (عليه السلام). وعلى عكس ذلك، اعتاد محمد (صلى الله عليه وسلم) أن يملى آيات القرآن على كُتّاب الوحي فور نزولها.
وتظهر الثنائية فى أن القرآن لا يحوى “حقائق علميه جاهزة، ولكنه يتضمن موقفا علميا جوهريا.. اهتماما بالعالم الخارجى، وهو أمر غير مألوف فى الأديان. يشير القرآن إلى حقائق كثيرة فى الطبيعة ويدعو الإنسان للتفاعل معها. الأمر بالعلم (بالقراءة) لا يبدو هنا متعارضا مع فكرة الألوهية، بل إنه قد صدر باسم الله: “اقرأ بسم ربك الذى خلق”. الإنسان (بمقتضى هذا الأمر) لا يلاحظ ويبحث ويفهم “طبيعة خلقت نفسها”، ولكن الكون الذى أبدعه الله. ولذلك فإن الملاحظة ليست بلا هدف، أو لا مبالية، أو خالية من الشوق، وإنما هى مزيج من العلم وحب الاستطلاع والإعجاب الدينى. وكثير من أوصاف الطبيعة فى القرآن على درجة عالية من الشاعرية” .
الثنائية ومفهوم التقدم
انطلاقا من إدراكه لثنائية الإنسان (المادة والروح) يقدم على عزت بيجوفيتش الرؤية الإسلامية للتاريخ. فيبدأ بنقد مفهوم التقدم المادى الذى يهيمن على الحضارة العلمانية الحديثة، فهذا التقدم لا يؤدى إلى سمو الإنسان، إذ هو منفصل تماما عن القيمة. إن كل تقدم بيولوجى أو تقنى فى الإطار المادى الداروينى المنفصل عن القيمة يؤدى إلى أن الأقوى يقهر الأضعف، بل ويحطمه.
فى مقابل ذلك يطرح على عزت بيجوفيتش رؤية مختلفة. فالحياة -فى تصوّره- نتيجة التفاعل المتبادل بين عاملين مستقلين هما: الأساس المادى والتأثير الخلاق لعامل الوعى الإنسانى، متمثلا فى الشخصيات القوية والأفكار الكبرى والمُثل العليا. فالوضع التاريخى فى أية لحظة من الزمن هو نتيجة التفاعل بين هذين العاملين المستقلين بصفة أساسية، ولذا فالتأثير الإنسانى على مجرى التاريخ يتوقف على قوة الإرادة والوعى. وكلما عظمت القوة الروحية للمشارك فى الأحداث التاريخية كلما عظم استقلاله عن القوانين الخارجية، والعكس صحيح. والتاريخ قصة متصلة من مجموعات صغيرة من أناس تميزوا بالحسم والشجاعة والذكاء، تركوا طابعا لا يمحى فى مجرى أحداث التاريخ وتمكنوا من تغيير مساره. “إن قوة الظروف الموضوعية تتزايد بالنسبة ذاتها التى يتناقص فيها العامل الفردى .. فكلما أصبح هذا (العامل الفردى) خاملا غير فعال، نقص قدره من الإنسانية وزاد نصيبه من الشيئية. إننا نملك القوة على الطبيعة وعلى التاريخ إذا كانت لدينا القوة على أنفسنا. هذا هو موقف الإسلام من التاريخ”.
ولذا فهدف التاريخ ليس هو التقدم المادى وإنما أمر مختلف تماما. فالهدف هو خلق إنسان متسقة روحه وبدنه، فى مجتمع تحافظ قوانينه ومؤسساته الاجتماعية والاقتصادية على هذا الاتساق ولا تنتهكه (ومن ثم؛ فهذا هو أيضا المفهوم الإسلامي للتقدم).
إن الإسلام بهذا المعنى هو البحث الدائم عبر التاريخ عن حالة التوازن الجوانى والبرانى. هذا هو هدف الإسلام اليوم، وهو واجبه التاريخي المقدّر له في المستقبل. ولذا فعلى عزت بيجوفيتش يرى أن وحدة الإسلام قد انشطرت “على يد أناس قصروا الإسلام على جانبه الديني المجرد، فأهدروا وحدته، وهى خاصيته التي يتفرّد بها عن سائر الأديان. لقد اختزلوا الإسلام إلى دين مجرد أو إلى صوفية (فتدهورت أحوال المسلمين). ذلك لأن المسلمين عندما يضعف نشاطهم وعندما يهملون “دورهم فى هذا العالم” يتوقفون عن التفاعل معه، وتصبح الدولة الإسلامية كأية دولة أخرى، ويصبح تأثير الجانب الديني في الإسلام كتأثير أي دين آخر، وتصبح الدولة قوة لا تخدم إلا نفسها. فى حين يبدأ الدين (الخامل) يجر المجتمع نحو السلبية والتخلف، ويشكّل الملوك والأمراء والعلماء الملحدون، ورجال الكهنوت وفرق الدراويش والصوفية، والشعراء السكارى.. يشكلون جميعا الوجه الخارجي للانشطار الداخلي (الذي أصاب الإسلام). وهنا نعود إلى المعادلة المسيحية. “أعط ما لقيصر لقيصر، وما لله لله”. إن الفلسفة الصوفية (المنكفئة على الأمور الروحية البحتة) والمذاهب الباطنية تمثل -على وجه اليقين- نمطًا من أكثر الأنماط انحرافا.
وتتبدى الثنائية في بنية القرآن نفسه، الذي يرى البعض أنه “من الناحية الموضوعية لا يتبع نظاما محددًا، ويبدو وكأنه مركب من عناصر متناثرة. ولكن، لابد أن يكون مفهوما بادئ ذي بدء، أن القرآن ليس كتابا أدبيا، وإنما هو منهج حياة. والإسلام نفسه طريقة حياة أكثر من كونه طريقة في التفكير. إن التعليق الوحيد الأصيل على القرآن هو القول بأنه “حياة”، وكما نعلم كانت هذه الحياة في نموذجها المجسد هي حياة النبي محمد (صلى الله عليه وسلم). إن الإسلام في صيغته المكتوبة (أعنى القرآن) قد يبدو بغير نظام في ظاهره، ولكنه في حياة محمد (صلى الله عليه وسلم) قد برهن على أنه وحدة طبيعية: من الحب والقوة، المتسامي والواقعي، الروحي والبشرى. هذا المركب المتفجر حيوية من الدين والسياسة يبث قوة هائلة فى حياة الشعوب التي احتضنت الإسلام. إن الإسلام يتطابق في لحظة واحدة مع جوهر الحياة”.
الثنائية وأركان الإسلام الخمسة
يرى على عزت بيجوفيتش أن من المستحيل تطبيق الإسلام انطلاقا من مستوى واحدى، فثنائية المادى والروحى تقع فى صميمه. فالصلاة -وهى نشاط روحى- لا يمكن أداؤها أداءً صحيحاً إلا من خلال إجراءات علمية “بضبط الوقت والاتجاه فى المكان، فالمسلمون مع انتشارهم على سطح الكرة الأرضية عليهم أن يتوجهوا جميعا فى الصلاة نحو الكعبة مكيفين أوضاعهم فى المكان (على اختلاف مواقعهم). وتحديد مواقيت الصلاة تحكمه حقائق علم الفلك. ولابد من تحديد هذه المواقيت للصلوات الخمس) تحديدًا دقيقا خلال أيام السنة كلها. ويقتضى هذا تحديد موقع الأرض فى مدارها الفلكى حول الشمس”. ولا يختلف الأمر كثيرًا بالنسبة للزكاة التى تحتاج إلى إحصاء ودليل وحساب. والحج الذى يتطلب الإلمام بكثير من الحقائق التى يتطلبها المسافر إلى مسافات بعيدة. ولعله بسبب هذه الثنائية تطورت جميع الميادين العلمية فى القرن الأول الإسلامى إذ إنها بدأت بمحاولات إقامة الفرائض الإسلامية.
وتتبدى الثنائية فى أهم فعل إسلامى وهو عملية النطق بالشهادتين الذى يعلن به الشخص اعتناقه للإسلام. فالنطق لابد وأن يؤدى أمام الشهود؛ لأن الشخص الذى يعتنق الإسلام -رجلا كان أو امرأة- ينضم إلى جماعة لها جوانبها الاجتماعية والاقتصادية، وهو الأمر الذى تترتب عليه التزامات قانونية، وليس فقط التزامات أخلاقية. فالإنسان الذى يلحق بدين روحى مجرد لا يستلزم وجود شهود ولا يتطلب الإعلان حيث إن هذه علاقة بين الإنسان وربه. فمجرد عقد النية أو اتخاذ قرار باطنى كاف تماما بهذا الخصوص. ولكن الإسلام ليس دينا مجردًا، ولذا يصبح الشهود ويصبح الإعلان أمرًا لازما”.
والصلاة هى الأخرى تبدٍّ للثائية الإسلامية. فالصلاة تؤكد الجانب الروحى. هذا حقيقى، ولكن الصلاة فى الإسلام، تشمل أيضا العناصر المادية (الطبيعية). ومن هذه الناحية تنتمى الصلاة إلى عالمنا الذى يحدده الزمان والمكان. هذا الجانب من الصلاة (سمِّه إن شئت الجانب الدنيوى، أو العلمى، أو الطبيعى) يزكى بقوة صفة أخرى، هى الصفة الاجتماعية. فالصلاة ليست مجرد اجتماع الناس لأداء الصلاة فى جماعة، ولكنها أيضا مناسبة لتنمية العلاقات الشخصية المباشرة، وبهذا الاعتبار، تكون الصلاة ضد الفردية والسلبية والانعزال. فإذا كانت الحياة تفرق الناس، فإن المسجد يجمعهم ويربط بينهم”.