ثم ينتقل على عزت بيجوفيتش إلى الزكاة ليكتشف النمط نفسه، فيشير إلى أن الزكاة في المرحلة المكية كانت تمنح للفقراء على سبيل التطوع (صدقات). ولكن عندما تأسس مجتمع المدينة -وهى اللحظة التاريخية التى تحولت فيها الجماعة الروحية إلى “دولة”- بدأ محمد (صلى الله عليه وسلم) يطرح الزكاة باعتبارها التزاما قانونيا (فريضة شرعية)، أى ضريبة يدفعها الأغنياء للفقراء. وهى، على حد علمنا، أول ضريبة من نوعها فى التاريخ. كأن الإسلام قد أنشأ الزكاة عندما أضاف عنصر الإلزام القانونى إلى المؤسسة المسيحية للصدقة”. واستخدام على عزت بيجوفيتش النموذج المركب يمكنه من ربط الصلاة بالزكاة، حيث يشير إلى أن المنطق الذى “حول الصلاة التأملية المجردة إلى صلاة “إسلامية”، هو نفسه الذى جعل من الصدقة التطوعية زكاة واجبة، والنتيجة النهائية أنه حول الدين الروحى المجرد إلى إسلام”، أى إلى دين ودنيا..
ولكن هل الزكاة مجرد ضريبة برانية لمساعدة الفقراء مثل الضرائب التي تفرضها الدولة العلمانية الحديثة؟ يجيب على عزت بيجوفيتش عن هذا السؤال بالنفي. فالزكاة تحوى العنصرين: البرانى والجوانى، المادي والروحي .. “فالفقر ليس قضية اجتماعية بحتة. فسببه ليس فى العوز فقط، وإنما أيضا فى الشر الذى تنطوى عليه النفوس البشرية. فالحرمان هو الجانب الخارجي للفقر، أما جانبه الباطني فهو الإثم (أو الجشع)، وإلا فكيف نفسر وجود الفقر في المجتمعات الثرية”.
ولذا.. “لا يُعالج الفقر بنقل ملكية بعض السلع، وإنما أيضا من خلال التضامن الشخصي، والقصد، والشعور الودّي. فلا شيء يمكن إنجازه على الوجه الصحيح بمجرد تغيير ملكيه سلع العالم طالما بقيت في النفوس الكراهية والاستغلال والاستعباد. وهذا هو السبب في إخفاق الثورات الدينية المسيحية، والثورات الاشتراكية جميعا”. لأن نصيب كل حل اجتماعي لم يتضمن حلا إنسانيا كان هو الإخفاق في تحقيق أحلامه في العدالة والحرية.
ثم يشير على عزت بيجوفيتش إلى ظاهرة فريدة في العالم الإسلامي، وهى ظاهرة الأوقاف، التي يصفها بأنها ثورة هادئة حدثت نتيجة لإصرار التعاليم الإسلامية على العطاء.. “فلا تكاد توجد دولة إسلامية واحدة ليست فيها ممتلكات كبيرة مخصصة للأوقاف وخدمة الخير العام. ولم يُذكر الوقف في القرآن، ولكنه لم يظهر في المجتمعات الإسلامية بمحض الصدفة، إنما كان ظهوره نتيجة لسيادة روح التضامن، ولتأثير وظيفة الزكاة التعليمي في المجتمعات المسلمة.
سنجد الثنائية نفسها في الصوم .. “فقد اعتبر المسلمون الصوم خلال شهر رمضان مظهرًا لروح الجماعة. ولذلك فإنهم حساسون لأي انتهاك علني لهذا الواجب. فالصيام ليس مجرد مسألة إيمان.. ليس مجرد مسألة شخصية تخص الفرد وحده، وإنما هو التزام اجتماعي. هذا التفسير للصيام كشعيرة دينية غير مفهوم عند الأديان الأخرى. إن الصيام الإسلامي وحدة تجمع بين التنسك والسعادة، بل والمتعة كذلك في حالات معينة.. إنه أكثر الوسائل التعليمية طبيعية وقوة. فالصوم يُمارس في قصور الملوك وفى أكواخ الفلاحين على السواء.. في بيت الفيلسوف وفى بيت العامل”..
ثم يأتي على عزت بيجوفيتش للركن الخامس من أركان الإسلام وهو الحج (إلى بيت الله الحرام بمكة المكرمة)، حيث يذهب إلى أنه لا يمكن فهمه إلا في إطار نموذج مركب، فهو شعيرة دينية وتجربة روحية، ولكنه أيضا تجمّع سياسي، ومعرض تجارى، ومؤتمر عام للأمة.
ويجب التنبيه على أن هذه الثنائية ليسلت ازدواجية.. “فالإسلام ليس وسطا حسابيا بسيطا، ولا قاسما مشتركا بين تعاليم هاتين العقيدتين. فالصلاة والزكاة والوضوء كينونات لا تقبل التجزئة، لأنها تعبير عن شعور فطرى بسيط، إنها يقين مُعبّر عنه بكلمة واحدة وبصورة واحدة فقط، ولكنها مع ذلك تظل -منطقيًا- تمثل دلالة ازدواجية. والتماثل هنا مع الإنسان واضح، فالإنسان هو مقياسها ومفسرها”.
خاتمة
يرى علي عزت بيجوفيتش أن هناك ظروفاً أساسية في حياة الإنسان يطلق عليها “الأوضاع الحدية” [وهى الأوضاع التي يوجد فيها الإنسان اضطرارًا]. من المؤكد أن واجب الإنسان هو أن يبذل جهده لتحسين كل شيء في هذا العالم بما في مقدوره. ومع ذلك، فسيظل هناك أطفال يموتون بطريقة مأساوية حتى في أكثر المجتمعات كمالاً. والإنسان على أحسن الفروض قد يستطيع أن يقلل من كم المعاناة في هذا العالم، ومع ذلك سيبقى الظلم والألم مستمرين”. العالم ليس يوتوبيا تكنولوجية، يمكن فهم كل شيء فيها، والتحكم في كل المخلوقات التي تسير فيها، إذ سيظل هناك المجهول وغير المتوقع.. سيظل هناك الخير والشر.
ماذا يفعل الإنسان في مواجهة ذلك ؟ هناك إجابتان مختلفتان عن السؤال نفسه، الأولى هى التمرد والتحريف والانحراف والعدمية. ولكن هناك أيضا التسليم لله، والاعتراف بالقدر، أى الاعتراف بالحياة على ما هي عليه، وقرار واع بالتحمل والصمود والتجمّل بالصبر. والتسليم لله هو ضوء يانع يخترق التشاؤم ويتجاوزه .. إنه قوة جديدة، وطمأنينة جديدة. الشعور بالأمن لا يمكن تعويضه بأي شيء آخر. ولا يعنى التسليم لله السلبية في موقف الإنسان، كما يظن كثير من الناس خاطئين. إن طاعة الله تستبعد خضوع البشر للبشر. إنها صلة جديدة بين الإنسان وبين الله، ومن ثم بين الإنسان وأخيه الإنسان.
ويخلص على عزت بيجوفيتش من كل هذا إلى “أن الإسلام لم يأخذ اسمه من قوانينه ولا نظامه ولا محرماته، ولا من جهود النفس والبدن التى يطالب الإنسان بها.. وإنما من شىء يشمل هذا كله ويسمو عليه: من لحظة فارقة تنقدح فيها شرارة وعى باطنى.. من قوة النفس فى مواجهة محن الزمان .. من التهيؤ لاحتمال كل ما يأتي به الوجود من أحداث.. من حقيقة التسليم لله. إنه استسلام لله.. والاسم. إسلام”.
والله أعلم.
(*) يشير بيجوفيتش بهذا إلى مسألة تحقق الإجماع، وفيه رأيان مشهوران: الأول أنه لا يكون إلا باتفاق المجتهدين كلهم، فلو اتفق أكثرهم فلا يكون إجماعا ولا حجه. والثانى: أنه ينعقد باتفاق الأكثر من أهل الاجتهاد، إذا كان المخالف نادرًا كالواحد والاثنين، لأن رأى الأمة يطلق ويراد به الكثرة منها، فتكون العصمة من الخطأ فى رأى الكثرة، ولأن العبرة بالغالب فى سائر الأمور الفقهية. وفى المسألة تفصيلات أخرى فى كتب أصول الفقه.
(*) يشير بيجوفيتش بهذا إلى سورة العلق -وهى أول ما نزل من القرآن- الذى فيه الأمر بالقراءة مرتين، كما أن فيه التنويه بنعمة تعليم الإنسان الكتابة بالقلم: “اقرأ بسم ربك الذى خلق. خلق الإنسان من علق. اقرأ وربك الأكرم. الذى علم بالقلم. علم الإنسان ما لم يعلم”