بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله تعالى نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ,من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله
أما بعد :
فإن أصدق الحديث كلام الله تعالى وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار
أخرج الحاكم في مستدركه وابن حبان في صحيحه والترمذي في سننه واللفظ للترمذي عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (( ليأتين على أمتي ما أتى على بني إسرائيل حَذْوَ النعل بالنعل حتى إن كان منهم من أتى أمه علانية لكان في أمتي من يصنع ذلك وإن بني إسرائيل تفرقت على ثنتين وسبعين ملة وتفترقُ أمتي على ثلاثٍ وسبعين ملة كلهم في النار إلا ملةً واحدةً قالوا ومن هي يا رسول الله قال ما أنا عليه وأصحابي )) وعند الحاكم (( ما أنا عليه اليوم وأصحابي ))
وفي روايةٍ أخرى ساقها العلامةُ المحدثُ أبو إسحاق الحويني في أكثر من موضع , فمرةً ذكرها في برنامج (( فاسمع إذاً )) الذي أذاعته قناة خير الفضائية أثناء حملة الدفاع عن النبي صلى الله عليه وسلم بعد نشر الرسوم المسيئة إليه صلى الله عليه وسلم , وكان هذا أول ظهور لهذا العالم الجليل على شاشات الفضائيات , قال الشيخ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (( افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة كلهم في النار إلا واحدة وافترقت النصارى على ثنتي وسبعين فرقة كلهم في النار إلا واحدة وتفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلهم في النار إلا واحدة , قالوا : من هي يا رسول الله ؟ قال : ما عليه اليوم أنا وأصحابي ))
وأمر افتراق الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة أمر ثابث بأكثر من حديث صحيح , فهو أمر لا خلاف فيه , ولا خلاف أيضا أن الفرقة الناجية الوحيدة هم أهل السنة والجماعة , ففي بعض ألفاظ الحديث تجد الجواب : هم الجماعة , لكن لفظ : ما عليه اليوم أنا وأصحابي , يفسر المقصود بالجماعة , فقد يفهم الناس أن الجماعة هي الكثرة وإن كانوا على ضلالة , فيأتي لفظ (( ما عليه اليوم أنا وأصحابي )) ليزيل هذا الإشكال
الاثنتا وسبعون فرقة , الخلاف بينهم وبين الفرقة الناجية , يكون في العقيدة ثم في العبادة
فظهر الخوارج : وكفروا عليا رضي الله عنه وقاتلهم علي , وخلفُهُم في هذه الأيام هم التكفير والهجرة فهم خلفاء الخوارج , وقاعدة عامة كل من يكفر بالكبيرة أو الصغيرة فهو فكر ضالُ ُ يخالفُ هديَ محمدٍ صلى الله عليه وسلم
وظهر المعتزلة : نفوا دلالات أسماء وصفات العزيز الحكيم على معانيها الحقيقية وقالوا بالتأويل وصرف الألفاظ عن حقيقتها اللغوية التي وضعت لها في الوضع الأول عند العرب المخاطبين بالقرآن , فنفوا علو الله على عرشه وأنه فوق العرش بذاته معطلين النص الصريح المبين الذي في سورة طه (( الرحمن على العرش استوى )) فقالوا بأن الاستواء هو الاستيلاء وهو معنى باطل وبطلانه يغني عن إبطاله , ومنهم من قال بأن الاستواء هو أقبل على خلق العرش وهو معنى باطلُ ُ أيضا لأن الاستواء لغة هو العلو والفوقية , وهكذا راحوا يصرفون اللفظ عن معناه الحقيقي بحجة أن هذا تشبيه للخالق بأنه يستوي كما يستوي المخلوق على السرير , وردَّ علماءُ أهل السنة عليهم بأن إثبات المعنى لا علاقة له بالتشبيه بل نحن نقول استوى ليس كما يستوي المخلوق , استوى كما يليق بذاته جل جلاله وكما قال الإمام مالك رحمه الله (( الاستواء معلوم )) أي معلوم المعنى وهو الفوقية والعلو , (( و الكيف مجهول )) أي كيف استوى الله على العرش ؟ إجابة هذا السؤال لا يعلمها إلا الله , فلا نشبه ولا نكيف ولا نمثل , ثم قال الإمام (( والإيمان به واجب )) أي بمعنى الاستواء وأنه العلو , (( والسؤال عنه بدعة )) أي السؤال عن الكيفية بدعة وضلالة , (( ومن الله الرسالة وعلى الرسول البلاغ )) (( لأنه تعالى كان ولا مكان وهو على ما كان قبل خلق المكان لم يتغير عما كان )) إذا اللهُ جلَّ جلالُهُ لا يحويه مكان , وإن معنى استواءه على العرش لا يعني أنه يحويه مكان , لأن العرش هو أخر المخلوقات علواً ففوق العرش لا مخلوق , فبالتدرج في العلو حتى تصل إلى العرش وهو آخر المخلوقات فلا مخلوق فوق العرش , فهذا معنى قوله تعالى (( الرحمن على العرش استوى ))
وتارة يصرفون المعنى بدعوى المجاز العقلي وهكذا في كل الأسماء والصفات لم يثبتوا لله إلا بعض الصفات كصفة العلم والقدم والحياة , هؤلاء المعتزلة
وهناك فرق كثيرة كالجهمية وهم من المعطلة كالمعتزلة وهناك الأشاعرة وهناك القدرية وهناك المرجئة وهناك الشيعة الروافض الذين قالوا بأن القرآن محرفُُ وألف أحدهم كتابا سماه (( فصل الخطاب في إثبات تحريف كتاب رب الأرباب )) وكفروا الصحابة جميعا إلا أربعة وفي رواية عنهم إلا سبعة وهناك الصوفية عباد القبور والأضرحة الذين أشركوا شركا لم يشركه أبو جهل فشركُ مشركي مكة كان في الألوهية أما شرك الصوفية ففي الربوبية وتفرع من هذه الفرق فرقُُ , وكل حزب بما لديهم فرحون
فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن هؤلاء جميعا في النار إلا واحدة , قالوا من هي يا رسول الله ؟ قال : ما عليه اليوم أنا وأصحابي
كانت هذه المقدمة الطويلة لابد منها وأنا أعرضُ مثالاً لرجلٍ يعرض لفكر بعض من هذه الفرق الضالة ويدعو الناس إلى اعتقاد هذا الفكر الخبيث الذي هو مزيج من فكر الخوارج والمعتزلة , هذا الرجل اشتهر في قناة دريم الفضائية ببرنامجه الذي عَنونَ له تحت اسم (( طريق الهداية ))
وعندما تسمع على ألسنة العامة الثناء على الرجل وعلى علمه الفياض وعلى ما أتى به من معان جديدة لم يكن أحد يعرفها من قبل , حينها تقول : أ نبوةُ ُ بعد رسول الله ؟
فإذا سمعت كلام الرجل وتابعته ترى العجب العجاب , فالرجل جاهلُ ُ متفشٍ فيه الجهل إلى درجة الطغيان , لا يعرفُ شيئا عما يقول , يتحدث بكلام ما أنزل الله به من سلطان , والغريب والعجيب أن الرجل يُقالُ أنه دكتور , ثم هو عضو المجلس الأعلىللشئون الإسلامية , ومستشار برابطة العالم الإسلامي
إنه الدكتور محمد هداية الذي شرب من أنتن بئرين في الأرض وجاء يتقيأ أمامنا وفي أذاننا ما شرب , فهو آخذ من المعتزلة ما هو آخذ من تعطيل أسماء وصفات العزيز القدير جل جلاله , ومن الخوارج التكفيرين ما هو آخذ من التكفير بالكبيرة , واللهُ أعلم أخذ عمن من الفرق الضالة الأخرى
فالدكــتــــــــــور : ينفي أن اللهَ على عرشه بذاته ويقول الله في مكان
والدكـــــتـــــــور : يتخبط في إثبات رؤية الله يوم القيامة فتارة يقول (( قد يــًرى )) وتارة يجزم بتحقق الرؤية
والدكــتـــــــور : يكفر المسلم مرتكب الكبيرة ويقول بأن عصاة المسلمين خالدون في جهنم أبدا
والدكـــتـــــــور : يقول أن عذاب القبر لا يخفف من عذاب الآخرة شيئا
والدكــتــــــــور : يفسر القرآن على هواه فيقول (( أ لم يجدك يتيما فأوى )) يتيما يعني ليس لك نظير فأواك بالنبوة
والدكـــتــــــور : يقول بأن صحيح البخاري فيه أحاديث لا تصح
والدكــتـــــــور : يـنــكر شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لأهل الكبائر مكذبا حديث الشفاعة الطويل المتفق عليه بين البخاري ومسلم
والدكــتــــــور : يصحح الأحاديث ويكذبها وفقا لفهمه لا وفقا لما أصطلح عليه المحدثون
والدكـتـــــور : أجهل أهل الأرض قاطبة بالحديث ثم يدعي أنه عالم في التخريج
والدكــتـــور : الدكتور يفسر كلام العزيز الحكيم لُغوياً وعلى طريقة أهل الكلام والفلاسفة
طبعا هذا بعضُُ من كلِّ فهناك الكثير والكثير , ولو لم يقل غير هذا فقط لكفاه جهلاً وضلالا أن يعتقد هذه المعتقدات الباطلة ثم يعرضها على الملايين ليسمم عقولهم بسموم المعتزلة والخوارج
فكان لابد من التحذير من الرجل وإبطال ضلالاته وكشف جهله بالبرهان المبين , وعرض أقواله بالنص وبيان بطلانها ومخالفتها للقرآن والسنة
ولكن قبل الرد على الدكتور , أضع هذا الأصل كبداية انطلاق في كلِّ مسألةٍ من مسائل الدين , داعيا المدافعين عن الدكتور إلى هذا الأصل الذي لا إيمان إلا لم حققه , هذا الأصل هو : (( الدينُ قال اللهُ قال الرسول )) و (( كلًّ قولٍ مردودٍ إلا قول النبي صلى الله عليه وسلم )) فقول أي أحدٍ من البشر مهما أوتي من العلم لا يحتج به بل هو مفتقر إلى الدليل , فقول العالم لا يستدل به وإنما يستدل له , وهذا الأصل نص عليه قوله تعالى (( أم لهم شركاءُ شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله ))
بدايةً , أقول لابد من الوقوف الصحيح على المقصود بـ (( الدين )) شرعاً , ولا يمكن الوقوف على المقصود بالدين شرعا إلا إذا أخذنا التعريفَ من كتابِ اللهِ أو سنة نبيه صلى الله عليه وسلم وما صح عن الصحابة رضوان الله عليهم , وهذا أصلُ ُ في كلِّ ما يتعلق بالدين لاسيما العقيدة والعبادة , فلا يجوز لأحد أن يضع تعريفات من عنده ما أنزل الله بها من سلطان ,فماذا قال الله تعالى في الدين ؟ قال تعالى (( إنَّ الدينَ عند اللهِ الإسلامُ )) إذا الدينُ هو الإسلامُ والإسلامُ هو الدينُ ,
فما هو الإسلام ؟
تعريفُ الإسلامِ في حديثِ جبريلَ الشهير الذي رواهُ الشيخان وغيرُهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه , فمن جملةِ ما سأل جبريلُ عليه السلامُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم (( قال يا رسول الله ما الإسلامُ ؟ قال الإسلامُ : أن تعبدَ الله ولاتُشْرِكَ به شيئا وتقيمَ الصلاةَ المكتوبةَ وتؤديَ الزكاةَ المفروضةَ وتصومَ رمضانَ ))
(( أن تـعـبـدَ اللهَ ولا تـُشـركَ بـهِ شـيـئـاً ))
وقد دلَّ القرآنُ كلُّهُ وما صحَّ عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وتواتر عنه باللفظِ والمعنى : أنَّ العبادةَ هي الـطـاعـةُ للهِ وحدَهُ لا شريكَ له , وأنَّ طاعتك للنبي صلى الله عليه وسلم إنما هي لأنه رسولُ اللهِ , يبلغُ أوامرَ اللهِ تعالى
فقال تعالى (( من يطع الرسول فقد أطاع الله ))
لكنَّ أكثر الناس يفهمون الطاعةَ فهماً خاطئاً
فما المقصودُ بالطاعةِ ؟
والطاعة لغة هي الانقياد والتسليم وهذا أيضا هو معنى الإسلام لغة وقد دل على هذا المعنى قوله تعالى ((أَفَغَيْرَ دِينِ اللّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً )) أي له انقاد من في السموات ومن في الأرض
و بقسمةٍ عقليةٍ بسيطةٍ , نجد أنَّ الطاعةَ تتطلبُ ثلاثةَ أركانٍ :
الركن الأول : مطاع وهو إما أن يكونَ : اللهُ تعالى وحده لا شريك له , أو أن يكون الطاغوت , قال تعالى (( وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ )) والطاغوتُ هو كلُّ معبودٍ غير الله , وهي مشتق من مشتقاتٍ الفعل (( طغى )) وهي مجاوزة الحد قال تعالى (( اذهب إلى فرعون إنه طغى )) وهو الشيطان لأنه الداعي الأول لعبادة غير الله , فمن أخذ عقيدته وعبادته عن غير الله فقد عبد الطاغوت
الركن الثاني : مُطِيْعُُ وهو العبدُ , فهو إما مطيعُُ لله وحده أو مطيعُُ للطاغوت
الركن الثالث : القولُ أو الفعلُ المأمورُ به من المُطاعِ إن كان أمراً بفعل أو المنهي عنه إن كان نهياً عن فعل .
وبالنظر في الركنِ الثالثِ وهو المأمورُ به أو المنهيُّ عنه من جهة مصدريته نجد أنه على قسمين : إما أن يكون صادرا من الله أو صادرا من الطاغوت , فالعابد لله في انتظار أن يبلغه قول الله حتى يفعل وهو في الآية الإذن بالفعل
فإن انعدم الركنُ الثالثُ في مسألة من المسائل العقائدية أو التعبدية , بأن لم يقل الله فيها قول بالأذن (( أن نعتقد اعتقادا ما أو نعبده بعبادةٍ ما لم يشرعها )) , ثم أتى من البشر أحدُُ واستحسن اعتقادا معيناً أو عبادة معينة , هذا الذي جاء بهذا فإنه بمثابة مشرع , أعطى نفسه حقا ليس له , هذا من ناحية , من ناحية أخرى فإن من أطاعه (( عالما أن هذا ليس من شرع الله بل هو من صنع البشر وعالما أن الله يكفر من فعل هذا )) فهذا قد اتخذه شريكا لله , فينطبق عليه الوصف العام في الآية (( أم لهم شركاءُ شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله )) فهو قد حقق كلَّ شئٍ نصت عليه الآية : فهو قد اتخذ شريكا قد شرع له من الدين ما لم يأذن به الله , وانظر أخي القارئ اللبيب إلى تلك اللطيفة في قوله تعالى (( ما لم يأذن به الله )) أي : لم يرضه الله , لم يرض أن يشرع للبشر هذه التشريعات التي شرعها هؤلاء الشركاء , فهو لن يأذن ولن يأذن أبدا, ولتسأل نفسك : لما لم يأذن به الله ؟ الجواب : لأنه لا يليق بالله أن يأذنَ بما فيه فساد وخلل , فـ (( ما )) تشمل كلَّ تشريع غير تشريع الله في العقيدة والعبادة والمعيشة (( لم يأذن به )) لأنه لو أذن به لاختل نظام الكون (( وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ )) و (( لم يأذن به )) أي منعه , فالله بكل شئ عليم , وقد علم أن هذا باطل فلم يشرعه
وإن الدين قد اكتمل بنزول قوله تعالى (( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا )) وقد قال الإمام مالك رحمه الله : من أتى بشئ زائد بعد هذا الآية فقد زعم أن محمدا صلى الله عليه وسلم خان الرسالة
وقال الشافعي رحمه الله : من استحسن فقد شرع
ثم قال جلَّ جلالُهُ ليحكم حكما يشملُ كلَّ من كان هذا وصفه (( وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ))
مما سبق نصلُ إلى هذا الأصل الكبير ألا وهو :
الدينُ هو قال اللهُ قال الرسولُ
فإذا جاءنا أحدُُ بشئٍ في العقيدة أو العبادة فإننا نقول له : من أين أتيتَ بما تقولُ ؟ فإما أن يثبت لنا أن الله أمر به أو النبيُّ صلى الله عليه وسلم قاله فيما صح عنه و إلا رُدَّ كلُّهُ , وقد روى مسلمُُ في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (( من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو ردُّ))ُ , أي مردود عليه عمله , فلا يقبله الله , وهذا المعنى قد تواترت به الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم , فمن حديث أنس بن مالك رضي الله عنه روى البخاري : (( جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم فلما أخبروا كأنهم تقالوها فقالوا وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر قال أحدهم أما أنا فإني أصلي الليل أبدا وقال آخر أنا أصوم الدهر ولا أفطر وقال آخر أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم فقال أنتم الذين قلتم كذا وكذا أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له لكني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني )) والشاهد قوله صلى الله عليه وسلم : (( فمن رغب عن سنتي فليس مني )) فهذا وصفُُ عامُُ قُيِّدَ له حكمُُ عامُ ُ , فكلُّ من رغب عن سنته صلى الله عليه وسلم فإنه ليس منه , وعن العرباض بن سارية رضي الله عنه كما في صحيح سنن ابن ماجه والسلسلة الصحيحة للشيخ الألباني ما نصه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (( قد تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك , من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيراً , فعليكم بما عرفتم من سنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ )) و كذلك حديث خطبة الحاجة الذي ورد عن ستةٍ من الصحابةِ , فقد ذكر العلامة الألباني في كتابه (( خطبة الحاجة التي كان رسول الله يعلمها أصحابه )) أن هذا الحديث ورد عن ستةٍ من صحابةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم عبد الله بن مسعود ، وأبو موسى الأشعري ، وعبد الله بن عباس ، وجابر بن عبد الله ،ونبيط بن شريط ، وعائشة ، رضي الله عنهم وعن تابعي واحد وهو الزهري , والحديث رواه مسلم وغيره , فمن جملة الحديث الذي رواه مسلمُُ عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (( أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدى هدى محمد وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة )) وقد ذكر الشيخ الألباني في كتابه (( صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم )) أقوال الأئمة الأربعة أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد , كلهم أجمعون قالوا : لا يحقُّ لأحدٍ أن يأخذ من أقوالنا ما لم يعلم من أين أخذناه , وهذا ما كان عليه أهل السنة جميعاً بدأ من الصحابة رضوان الله عليهم حتى زماننا هذا وهم الفرقة الناجية بنص الحديث (( ما أنا عليه اليوم وأصحابي ))
انطلاقا من هذا الأصل الأصيل الذي هو كالشمس في ضحاها نقول :
إن الأمور العقائدية والتعبدية توقيفية فلا اعتقاد إلا بنص ولا عبادة إلا بنص وأن أي عالم مهما كان شأنه فإن قوله يحتاج إلى دليل , وأن نسأله لما قلت بكذا ؟
من هنا أكون قد فرغت بعون الله من بيان تأصيل الأصل الواجب الاتفاق عليه بين كلِّ متجادلين في كل أمر من أمور الدين , قبل الخوض في الفروع , لأن الخوض في الفروع قبل الاتفاق على هذا الأصل إنما هو عبث وجدال عقيم وهذا هو منهج أهل السنة دائما كما بين فضيلة الشيخ أبي اسحاق الحويني في أكثر من موضع
فمن لم يعتقد هذا الأصل (( وهو أن الدين :قال اللهُ قال الرسولُ )) فقد خرج من العبودية إلى الفضاء الواسع إلى هواهُ فكان أمره فرطا , فهذا تكون مجادلته لإثبات هذا الأصل أولاً , فلا تكونُ معه مجادلة قط إلا لتأصيل هذا الأصل الكبير , يُجَادَلُ ليوَّحِدَ , فالتوحيد هو الأصل وما تحته فروعُُ له , وهذا هو أسلوب القرآن مع المشركين كافة , جادلهم بما عرفوا من ربوبية الله تعالى للعالمين وكونه الخالق واعترافهم بأنه الخالق وحده والضار والنافع وحده , جادلهم بهذا منكرا عليهم أن يعبدوا من دونه ما لا يضرهم ولا ينفعهم .
بعد بيان هذا الأصل أبدأ بعون الله تعالى في العرض لبعض أقوال الرجل وإبطالها بالدليل من القرآن والسنة
أولا : قولُهُ (( اللهُ واجب الوجود في كل مكان وزمان )) :
يرى الدكتور : أن الله في كل مكان وكل زمان , وقال لا يجوز أن تشير إلى جهة الفوقية قاصدا أن الله في السماء فالله في كل مكان وكل زمان ,
وأقول للدكتور ماذا تقصد بأن الله في كل مكان ؟ هل تقصد أنَّ الله في كل مكانٍ بذاته ؟ بمعنى أخر : هل الذاتُ الإلهية في كل مكان ؟ إذا كان الدكتور يقصد هذا فقد أشرك بالله ما لم ينزل به سلطانا
أما إن كان يقصد أن علم الله في كل مكان وأنه يسمع كل شئ ويبصر كل شئ إلى آخر أسماء الله تعالى وصفاته , فكان لزاما عليه وهو يدعي أنه من أهل اللغة أن يقول : علمُ الله يشمل كل مكان , و لأنه أمر عقائدي , لا يجوز فيه إلا الدقة في التعبير , لا أن نترك الناس متحيرة في فهم في هذا المعنى الجليل القدر
ولا أدري ماذا يقول الدكتور في قوله تعالى (( الرحمن على العرش استوى )) ؟
وفي قوله تعالى (( يخافون ربهم من فوقهم )) و (( وهو القاهر فوق عباده )) و قوله تعالى (( أ أمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض )) و قوله تعالى (( إليه يصعد الكلم الطيب )) و (( تعرجُ الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ))
أ ليست هذه الآياتُ إثباتا لعلو الله على عرشه , وأنه فوق العرش بذاته جل جلاله , أم أنك ترى ما يرى المعتزلة و الجهمية معطلة الأسماء والصفات ؟
(( الرحمنُ على العرش استوى ))
قال شيخُ الإسلام بن القيم في كتابه (( الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة )) ما يلي :
الاستواء المطلق له عدة معان أما الاستواء المُعدَى بـ (( على )) فليس له إلا معنى واحد , واستوى عليه أي ارتفع عليه وعلا عليه ولا تعرف العربُ غير هذا , فالاستواء في هذا التركيب نصُُ لا يحتمل غير معناه وهو الفوقية والعلو
, وذكره أيضا العلامة الألباني في أكثر من موضع , والعرش هو سقفُ المخلوقاتِ , أي لا مخلوق فوق العرش , وكما قال عبد الله بن رواحه رضي الله عنه :
شـهدت بـأن وعـد اللـه حق وأن النـار مثـوى الكـافرين
وأن العـرش فـوق الماء طافٍ وفـوق العـرش رب العالمين
فالقول بأن الله تعالى على عرشه لا يعني أن الله يحويه مكان , لأن العرش هو آخر المخلوقات , والمكان مخلوق , ولا يعني أيضا أن العرش يحملُ العزيز القدير , بل العرش و السموات والأرض يمسكهم الله أن تزولا (( أن الله يمسك السموات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده إنه كان حليما غفورا )) فهو العزيزُ عن كلِّ خلقه جل جلاله .
الذي ينبغي علمه أن الله فوق العرش , لكن كيف استوى ؟ هذا هو المنهي عنه , فمن عقيدة أهل السنة في الأسماء والصفات : فهم المعنى وتفويض الكيفية إلى الله ربِّ العالمين , فهو العليمُ بذاته جل جلاله , وقد قال لنا تعالى (( ليس كمثله شئ )) أي أن ذاته وأسماءه وصفاته وأفعاله ليس كمثلها شئ , (( ليس كمثله شئُ ُ وهو السميعُ البصيرُ )) أي يسمع لا كسمع المخلوقات ويبصر لا كبصر المخلوقات , وكل صفاته كذلك , يجئ يوم القيامة للفصل بين العباد لا كمجئ المخلوقات , ينزل إلى السماء الدنيا كل ليلة لا كنزول المخلوقات , يغضبُ ويرضى لا كغضب ورضا المخلوقات , ثبتت له تعالى (( اليد , والقدم , والوجه , والعين ))
قال تعالى عن مجيئه يوم القيامة للفصل بين العباد (( وجاء ربُّكَ والملكُ صفاً صفاً ))
قال تعالى (( يا إبليس ما معنك أن تسجد لما خلقتُ بيديَّ ))
وقال النبي صلى الله عليه وسلم مثبتا (( الرِّجْلَ )) لله تعالى , وهو في صحيح البخاري , (( لا تزال جهنم تقول هل من مزيد , حتى يضع الجبار فيها رجله , فتنزوي وتقول قط قط )) فهذا إثبات صفة القَدَم لله تعالى ولكن دون تشبيه بأحد فهو (( لم يكن له كفوا أحد )) وأيضا بلا تكييف بأي شكل من الأشكال لأن هذه الأمور غيب عنا , نحن نؤمن بالمعنى كما أنزل
قال تعالى (( كلُّ شئٍ هالك إلا وجهه )) هذا إثبات الوجه
قال تعالى (( واصنع الفلك بأعيننا )) و قال تعالى (( واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا ))
كلُّ هذا في إطار (( ليس كمثله شئ )) فحذار من التشبيه وحذار من التعطيل , إذا الأمر وسطية تنزيه مع إثبات المعنى , لا أن نصرف اللفظ عن معناه كما يقول الدكتور ومن ذهب مذهبه
بل إن الدكتور في موضع آخر , في إحدى حلقات برنامجه الدين القيم وفي الحلقة 19 يقول من جملة ما قال , والكلام منقول بالنص (( الله تعالى في تعريفه واجب الوجود في كل زمان ومكان ولهذا يجب أن نصحح عقيدتنا ))
الدكتور يخالف علماء أهل السنة جميعا في فهمهم لكلام الله
فالأئمة الأربعة الكبار المجتهدون عقيدتهم في قوله تعالى (( الرحمن على العرش استوى )) واحدة , استوى بالمعنى المفهوم للاستواء ولذلك فإن من المشهور عن الإمام مالك رحمه الله أن رجلا جاءه قال له يا إمام ما تقول في قوله تعالى (( الرحمن على العرش استوى )) فقال مالك : (( الاستواء معلوم )) , أي معلوم المعنى , استوى بمعنى علا , و (( الكيف مجهول )) أي كيف استوى سبحانه ؟ هذا مجهولُُ ُ فلا علم لأحد به إلا الله , (( والإيمان به واجب )) أي الإيمان بالاستواء واجبُُ على كل من أمن بمحمد صلى الله عليه وسلم , (( والسؤال عنه بدعة )) أي السؤال عن الكيفية لمن يعلم المعنى بدعة , (( ومن الله الرسالة وعلى الرسول البلاغ ))
هذا نص قول الإمام مالك بن أنس إمام دار الهجرة , و ينسب إلى الإمام أبي حنيفة رحمه الله أنه عندما سأله أحدُ المشركين : هل رأيت ربك ؟ و أين ربك ؟ فقال : سبحان ربي لا تدركه الأبصار , ولا تحويه الأقطار , ولا يؤثر فيه الليل والنهار , وهو الواحد القهار
والإمام أحمدُ بنُ حنبلٍ رحمه الله له صولات وجولات مع الجهمية والمعتزلة وفي إبطال فكرهم الذي يدعو إليه في زماننا أمثالُ الدكتور
ثانيا : عقيدة الدكتور في رؤية الله تعالى يوم القيامة غير ثابتة
فمرة يقول (( قد يـُرى يوم القيامة )) ومن المعلوم أن قد في هذا التركيب تفيد الشك , يعني الدكتور يشك في مسألة الرؤية , ثم في موضع آخر يقول (( ونحن مع فريق اللغويين الذي يقول بالرؤية لا الإدراك ))
مرة يجزم ومرة يشك
وهذا لمن لا يعلم من أخطر الأمور , فالعقيدة بالذات يجب أن تكون ثابتة , ورؤية الله تعالى يوم القيامة من أهم أمور العقيدة وإن من أنكرها فقد أنكر معلوما من الدين بالضرورة فقد ثبت بالنصوص القطعية الصريحة أن الله تعالى سيـُرى يوم القيامة , قال تعالى (( وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة )) و في قوله تعالى في شأن المشركين ((كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ ))
وفي الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري قال (( قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَالَ هَلْ تُضَارُونَ فِي رُؤْيَةِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ إِذَا كَانَتْ صَحْوًا قُلْنَا لَا قَالَ فَإِنَّكُمْ لَا تُضَارُونَ فِي رُؤْيَةِ رَبِّكُمْ يَوْمَئِذٍ إِلَّا كَمَا تُضَارُونَ فِي رُؤْيَتِهِمَا ))
ثالثا : قوله بخلود أهل الكبائر من المسلمين في جهنم بفهمه الخاطئ لكلام الله :
في الحلقات التي عنون لها باسم : (( التوبة والاستغفار )) تجده يسعى إلى ترسيخ هذا المعنى , ومن جملة ما قال عندما سأله مقدم البرنامج :
(( إذا الناس الذين يقولون هناك آراء فقهية وهناك آيات وأحاديث تؤيد هذا الرأي؟ ))
فقال الدكتور : (( لا، لا يوجد آيات والذي عنده آيات تؤكد هذا المعنى فليرسلها لنا القرآن منطقه لا يتغير ولا يتعارض الآيات كلها تصب في اتجاه واحد والقرآن واضح وضوح الشمس في كبد السماء لا يحتاج إلى تبيين. القرآن قسم الجنس البشري إلى اثنين (يوم تبيض وجوه وتسود وجوه) (إن الأبرا لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم) (فأما من أوتي كتابه بيمينه - وأما من أوتي كتابه بشماله) ليس هناك ثالث بل على العكس هناك آية (لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ (20) الحشر) لا يستوي، لو أخرجته من النار ولو للحظة تكون سويت بينه وبين أصحاب الجنة. ))
طبعا كلامه واضح كالشمس في ضحاها , وجهله الفادحُ الفاضحُ واضحُُ منتهى الوضوح , طبعا لمن لم يعرف الدكتور ومنهجه في التفسير , أقول له إن الدكتور بزعمُ أنه لُغويُُّ , فهو يفسر القرآن بدلالاته اللُغوية , افترضنا جدلا أنه حقا من أهل اللغة وهذا ما أثبت الدكتور خلافه , هل يجوز تفسير القرآن باللغة فقط , أي اعتمادا على دلالات الألفاظ على المعاني ؟ الجوابُ : لا
لماذا لا ؟
لأن اللفظ العربي لفظُ ُ مطاطُ ُ متسعُُ , يحملُ في طياته أكثر من معنى , وإذا كان الدكتور من أهل اللغة فإنه لا يخفي عليه ذلك
ولا أدري إلى أي العلوم استند الدكتور في تفسيره لآيات القرآن ليفهم منها ما فهم وقال
(( القرآن منطقه لا يتغير )) نعم , هذا حق , القرآن كلام الله وحاشا لله أن يكون كلامُهُ متناقضا , ولكن يا دكتور : العلةُ ليس في القرآن , إنما العلةُ في المتلقي , قال تعالى (( كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ )) إذا العلة في اللطيفة المدركة في العقل الذي لم يحسن فهم كلام ربه
ولا أدري ما الذي دفعك إلى القول بما قلت , أهو جهلُ ُ أم شئُ ُآخر ؟
ولكن لابد من الرد و إتيان بنيانك من القواعد وإن بنيانك فيه من البطلان ما يغني عن إبطاله , لأنك أسسته على شفا جرفٍ هارٍ .
فأقول وما توفيقي إلا بالله :
قسم اللهُ الناسَ باعتبار المآل الأبدي إلى صنفين : فجعل للجنةِ أهلا وللنار أهلا
فمن هم أصحابُ الجنةِ ومن هم أصحابُ النار ؟ وما المقصود بــ أصحاب ؟
كلمةُ (( صاحب )) بمعنى مالك , وهي الملازمة , إذا أصحابُ النار كلمة دالة على خلود أهلها فيها , وأصحاب الجنة كذلك ,
ولكلِّ دارٍ صفاتُُ من اتصف بها فإنه من أهلها , والناظر في نصوص القرآن جميعا الفاهم لمعانيها , يعلم علم اليقين أن الذي أحق النارَ لأهلها هو الشرك , فلا مخلد إلا المشرك , هذا قولُ ُ فصلُ ُ , لكن الدكتور قد ألحق مرتكبي الكبائر بالمشركين , وإنني أسأل الدكتور (( هل تكَّفِرُّ مرتكبَ الكبيرةَ ؟ )) وإن قال نعم , فإنني أقولُ له (( هل تكفره مطلقا )) أي هل كلُّ من ارتكب كبيرة فقد كفر ؟
من هنا نعلم أن الدكتور وهو يحقُّ النارَ لمرتكبِ الكبيرةِ خالدا فيها أبدا ,لم يفهم معنى الشرك ,وبسبب سوء فهمه لمعنى الشرك فقد ألحق مرتكب الكبيرة مُطلقاً بالمشركين .
فما هو تعريفُ الشركِ : الشركُ نقيض الإسلام , وقد عرف النبيُّ صلى الله عليه وسلم الإسلام كما في حديث جبريل الذي عند مسلم بـ (( أن تعبد الله ولا تشرك به شيئا )) طبعا ما بعده من تفصيل هو فرعُُ على الأصل , كقوله صلى الله عليه وسلم (( أن تقيم الصلاة المكتوبة )) و (( أن تصوم رمضان )) فهذه الأمور من لوازم (( أن تعبد الله ولا تشرك به شيئا )) فالعبادة هي الطاعة , إذا الشركُ وهو نقيضُ الإسلامِ تعريفه : (( أن تعبد مع الله إلها آخر )) كلمة : تعبد معناها تطيع وتنقاد , هذا هو معناها , فيصبح الشرك هو طاعة غير الله والانقياد لغير الله , فينقسم باعتبار النصوص القطعية إلى : شرك اعتقادي وشرك عملي , فأما الشركُ الاعتقادي فهو ما يتعلق بالقلب وإقراره وأما الشرك العملي فهو فعل الجوارح , وفي هذا يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه عند البخاري وغيره (( إنما الأعمال بالنيات )) فهناك أعمال ونيات , العمل هو فعل الجوارح , والنية هي فعل القلب , وهذه الأعمال لا تؤتي ثمرتها إلا بوجود النية , وهي ملازمة له , فلا انفكاك بينهما بحال , متى وجد عمل فاعلم أن وراءه نية , فإذا أقر القلبُ بشئ نهى اللهُ عنه أو لم يقر بشئ أمر اللهُ به فهذا هو المشرك صاحب النار , فإقرار القلب للمعصية واستحلالُهُ لها شركُُ بالله , وكذلك الامتناع عن الطاعة بأن لم يقرها القلب غير مؤمن بها , فنسأل هذا السؤال :
مرتكب الكبيرة هل يستحلها ؟ أم لا ؟
ليصبح لدينا حكما هو أن : مرتكب الذنب المستحلُ له مشركُُ فإن مات وهو مستحلُ ُ له مات مشركا وهو من أصحاب النار يعني خالدا فيها أبدا , نأتي إلى مرتكب الكبيرة الذي يقرُّ قلبه بأنها كبيرة , وهذا واقعُُ لا يستطيع أن ينكره أحدُُ , وقد دلت النصوص الصحيحة الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك , وفي الحديث الصحيح من حديث أبي ذر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (( يا ابن أدم لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لقيتك بقرابها مغفرة ولا أبالي )) وهذا الحديث من أشهر الأحاديث التي أفاض فيها علماء أهل السنة لبيان خطورة الشرك أولا ثم للرد على من يكفرون المسلمين بالمعاصي , (( قراب الأرض )) لفظُ ُ عربيُُّ مبينُ ُ , أي ما يقارب ملئ الأرض كلها خطايا , و نُكِّرَتْ (( خطايا )) لتستغرق كل الخطايا , ثم استثني منها الخطيئة الكبرى وهي الشرك , وانظر إلى السياق (( لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا )) ثم إن القرآن نفسه يقرر هذا المعنى في قوله تعالى (( إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً )) [النساء : 48]
(( إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً )) [النساء : 116]
إذا كان اللهُ جلَّ جلالُهُ يقول في كتابه (( عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاء وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَـاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ )) يا دكتور لقد أخطئت , يا دكتور القرآن فيه مواطن إجمال كثيرة , هذه المواطن غرتك , يا دكتور القرآن يحتاج إلى السنة لبيانه , لا اللغةِ وحدها , القرآن يحتاج إلى علوم عدة , وإنني أسأل الدكتور هذا السؤال : لماذا قيد اللهُ عذابه بالمشيئة وجعل الرحمة بلا قيد في الدنيا ثم في الآخرة هي للمؤمنين ؟ , ولماذا في سورة الحجر بعد لعن إبليس وطرده من رحمة الرحمن الرحيم وبيان منزلته في الآخرة هو و من والاه ثم بيان منزلة أهل الجنة , قال تعالى (( نبأ عبادي أني أنا الغفور الرحيم )) قال (( إني أنا )) عندما تحدث عن المغفرة وعندما تحدث عن العذاب قال (( وأن عذابي هو العذاب الأليم )) يا دكتور إن الله يقول (( كتب على نفسه الرحمة ))
نعود إلى التقسيم السابق : مرتكب المعصية المستحل لها أي القائل للنص القطعي : (( لا)) بقلبه , كافر مخلد في جهنم إن لم يتب لأنه أشرك بالله ما لم ينزل به سلطانا فهو فِسْقُُ لأنه خروجُُ على الأمرِ الشرعيِّ , وأوضح مثال لذلك : إبليس , فإبليس وصفه اللهُ بالكفر والفسق , لأنه تمرد على أمر ربه التشريعي وليس الكوني فلا أحد يستطيع التمرد على أمر الله الكوني , قال تعالى (( إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه )) فإبليس عندما رد الأمر على ربٍّ العالمين فإنه قد شرع لنفسه شرعا آخر , ولذلك يقول ابن الجوزي رحمه الله : (( كان إبليسُ أولَ من اجتهد في وجود النص ))
لأن الله قال له (( اسجد )) وقد فهمها ووعيها ولكنه شرع فقال (( لم أكن لأسجد )) والكونُ المنفيُّ الذي بعده لامُ الجحود يدل على أنه يريد أن يقول (( لن أسجد أبداً )) هذا هو الفسق , وكل من كفر كان كإبليس , أما مرتكب المعصية عن ضعفٍ وعدم قدرة على السيطرة على النفس مع إقرار قلبه بأنها معصية هذا ليس بكافر بل هو عاصي إن لم يتب من المعصية سواء كبيرة أو صغيرة فأمره إلى الله إن شاء غفر له وإن شاء عذبه .
وللشيخ الجليل العلامة المحدث أبي إسحاق الحويني بارك الله في عمره كلامُُ في هذا عندما رد على من يتهمونه بأنه يكفر مرتكب الكبيرة قال بأن لا يجوز تفكير مسلم بذنب ما لم يستحله , ولا نكفر الأعيان إلا بعد البيان التام وإقامة الحجة الدامغة بحيث لا يبقى بعد البيان بيان , وقال الشيخُ الفاضل حفظه الله : أن استحلال القلب هو الفيصل , وفرَّق بين العودة إلى المعصية وتكرارها وبين الإصرار فقال بأن الإصرار خلاف التكرار وأن الإصرار هو الاستحلال بعد البيان وقرع الحجة القلب .
وهناك نقطة لابد من توضحيها بشأن إقرار القلب بالذنب , أن إقرار القلب بالذنب من لوزامه التألم النفسي وعدم الطمأنينة , فالندمُ والألمُ النفسي يكون ملازما لإقرار القلب , لا ينفكُّ عنه بحال , فهو إما أن يتوب أو يظلَّ في عذابِهِ النفسي لتيقنه من مخالفة أمر خالقه , ومن المعروف أن الندم أول خطوة من خطوات التوبة , تكتمل التوبة بالإقلاع والعزم على عدم العودة فيزول الألم النفسي وتنزل السَّكِيْنَةُ والطمأنينة على القلب , فهو بين أمرين إما أن يتوب أو يظلُّ في عذابه وشقاءه النفسي , أما إن استحلها فهذا خروج من العبودية إلى فضاء الأهواء الشاسع ولكنه سيتألم أيضا ولكن ليس من جنس لوم النفس إنما هو بسبب الإعراض عن دين الله كما قال تعالى (( ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا )) فالتألم الأول كان من جنس العقوبات الموقعة على عاصٍ أما الأخرى فهي من جنس الموقعة على كافرٍ .
مما سبق بيانه يتضح لنا أن جملة (( مرتكب الكبيرة كافر مخلد في النار )) هكذا بلا قيد , لا تصحُّ شرعاً .
فالدكتور أخذ من المجمل وفهم الكلام فهما خاطئا
وإني لأقول للدكتور ائتني بآية واحدةٍ تقول بأن ((عصاة المسلمين الغير تائبين خالدون في جهنم )) فكل الآيات التي أوردها الدكتور إنما تتحدث عن الكفار ثم تقابلهم بالمؤمنين , هذا هو الأمر , والقرآن كله يتحدث عن الكفار والمؤمنين , لكن فهم الدكتور الخاطئ لمعنى الشرك هو الذي أوقعه في هذا الكلام الذي ما أنزل الله به من سلطان
(( إن الأبرار لفي نعيم )) و (( إن الفجار لفي جحيم )) الآيتان وصفان جعل الله لهما حكمين , و ليس هناك أزمنة في الآيات , ونزع الأزمنةُ يدل على الدوام لأن من خصائص الجملة الإسمية دلالاتها على الثبات ولكن قد يقيدها السياق , ودخول (( إنَّ )) الناسخة تفيد التوكيد والجزم لأن هناك من يشك ويكذب بالخبر وهم المشركون , هذا كلام جميل , ولكن الذي فات الدكتور أن هذه الآيات ونظائرها إنما تتحدث عن إحقاق دارين متضادتين لقومين متضادين في العقيدة , قوم أسلموا وأمنوا وقومُ ُ كفروا , ألم يقل الله في سورة القلم (( أ فنجعلُ المسلمين كالمجرمين , ما لكم كيف تحكمون )) الآياتُ التي استشهد بها الدكتور تقصُّ علينا النهاية التي تحدث بعد خروج آخر من أذن له الله أن يخرج من النار من الموحدين فيقال كما في الحديث الذي رواه ابن ماجه بسند صحيح وأخرجه الشيخ الألباني في (( صحيح سنن ابن ماجه باختصار السند )) :
عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (( يؤتى بالموت يوم القيامة فيوقف على الصراط فيقال يا أهل الجنة فيطلعون خائفين وجلين أن يخرجوا من مكانهم الذي هم فيه ثم يقال يا أهل النار فيطلعون مستبشرين فرحين أن يخرجوا من مكانهم الذي هم فيه فيقال هل تعرفون هذا قالوا نعم هذا الموت قال فيؤمر به فيذبح على الصراط ثم يقال للفريقين كلاهما خلود فيما تجدون لا موت فيها أبدا ))
وخروج آخر واحد من النار ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (( إني لأعلم آخر أهل النار خروجا منها وآخر أهل الجنة دخولا الجنة رجل يخرج من النار حبوا فيقال له اذهب فادخل الجنة فيأتيها فيخيل إليه أنها ملأى فيرجع فيقول يا رب وجدتها ملأى فيقول الله اذهب فادخل الجنة فيأتيها فيخيل إليه أنها ملأى فيرجع فيقول يا رب وجدتها ملأى فيقول الله سبحانه اذهب فادخل الجنة فيأتيها فيخيل إليه أنها ملأى فيرجع فيقول يارب إنها ملأى فيقول الله اذهب فادخل الجنة فإن لك مثل الدنيا وعشرة أمثالها أو إن لك مثل عشرة أمثال الدنيا فيقول أتسخر بي أو أتضحك بي وأنت الملك قال فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحك حتى بدت نواجذه فكان يقال هذا أدنى أهل الجنة منزلا )) وهذا الحديثُ رواهُ البخاريُّ ومسلمُُ ,
فالآيات التي خاض فيها الدكتور تتحدث عما بعد ذبح الموت على الصراط , هذا وجه .
الوجه الآخر هو أن قوله تعالى (( إن الأبرار لفي نعيم )) و (( إن الفجار لفي جحيم )) تتحدث عن (( الأبرار)) أي الذين اكتملت لديهم صفة البر ,أي من ليس فيه مثقال حبة من خردل من نقيض الصفة و (( الفجار )) تعني من تلبس بالصفة تلبسا كاملاً بحيث تمثل الفجور كله فيه , أي ليس فيه مثقال حبة من خردل من نقيض الصفة , فهي أوصاف لخلص , ولا بد من تحقق هذا , فالذي يخرج من النار كأصحاب الكبائر فإنهم قد طُهِّرُوا من دنسهم , طهرتهم النار , كما يدخل الذهب النار , (( لِيَمِيزَ اللّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىَ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ )) فجهنم لا يبقى خالدا فيها أبدا إلا الخبيثُ المحضُّ , الشرُّ الخالص , وهم الذين فعلو الخطئية التي لا يغفرها الرحمنُ يوم القيامة لمن أتاه متلبسا بها , ألا وهي الشرك .
والجنة لا يدخلها إلا الطيبُ المحضُّ الذي نُقي من خطاياه كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس , فلابد أن يصير العباد إلى اثنين لا ثالث لها : طيبين خُلَّص و خبيثين خُلَّص , ولذلك تعرضُ الفتن على القلوب كما في الحديث الذي رواه مسلم في كتاب الإيمان عن حذيفة رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (( تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودا عودا فأي قلب أشربها نكت فيه نكتة سوداء وأي قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء حتى تصيرعلى قلبين على أبيض مثل الصفا فلا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض والآخرأسود مربادا كالكوز مجخيا لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا إلا ما أشرب من هواه )) فكما أن هذا العرض للتمحيص فإن دخول جهنم لمن عصى معصية اقتضت دخوله جهنم هي من قبيل تطهيره لأن الجنة لا يدخلها إلا مطهر طهارة كاملة
لا كما يقول الدكتور إن من دخل جهنم فلن يخرج منها واستدل على ذلك بآية لا أدري وجه استدلاله بها (( وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ )) [السجدة : 20]
الدكتور يستدل بهذه الآية على أن من دخل النار من عصاة المسلمين فليس بخارج منها !!!!!!!
الآية تتحدث عن الذين فسقوا فسوقا اعتقادياً أي الذين كفروا والدليل (( ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تـُـكَـــذِّبـُونَ )) فهؤلاء مكذبون بالرسالة كلها
ثم يتفلسف عندما سأله المقدم : (( لماذا قال أعيدوا فيها ؟ ولم يقل : أعيدوا إليها ؟ لأنهم لم يخرجوا منها فعلا ؟ ))
فقال الدكتور : (( لا , هم يمكن أن يكونوا خرجوا , أعيدوا تبين أنهم خرجوا لكن لو قال أعيدوا إليها قد توحي أنهم أعيدوا إلى أطرافها بعيداً لكن أعيدوا فيها تبين أنهم أعيدوا في وسطها حتى تتحقق الكلمة يعني في شدة النار ))
خرجوا ! ! ! , ثم يقول (( أعيدوا تبين أنهم خرجوا )) وإني أسأله : خرجوا إلى أين يا دكتور ؟أو خرجوا إلى الجنة ؟ فيقول الدكتور إنه خروج حكمي وقتي لتبديل الجلود مستدلا بالآية (( كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب )) فما دليل الدكتور على أنهم خرجوا لتبدل جلودهم , إن يتبع الدكتور إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا , فكل تعرضه للآيات هكذا , يتعرض لها برأيه فقط
خذ عندك يا دكتور ما سأبطل به رأيك , قوله تعالى (( كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها )) (( من هـا )) حرف الجر (( من )) يدل على ابتداء الغاية , الهاء ضمير عائد على جهنم , بل على وسطها , فهم في سواء الجحيم , هم أرادوا أن يخرجوا مــن الـمـنـتـصــف مـــن ســواء الجحيم , فالتحرك سيكون مــن قاصدا إلى لتنتهي غايتهم بالخروج , الله يقول (( أعيدوا )) ولكن (( أعيدوا فيها )) مما يدل على أنهم لم يكملوا خروجهم من النار , بل تحركوا مــن وسط جهنم مسافة الله أعلم بها لكنهم ما زالوا في جهنم ثم أعادتهم الملائكة مرة أخرى (( فيها )) أي إلى موضعهم الأول وهو سواء الجحيم , وسبب تركهم يحاولوا الخروج إنما هو لزيادة العذاب فهم لما لم يمنعوا من الخروج فإن أملا سيولد بقلوبهم أنهم خارجون ثم تأتي الملائكة لأخذهم حيث كانوا , فهذا ادعى لبعث أمل سيقتل , وهو من ألوان العذاب لأهل النار , ولذلك فإنه سيتكرر والدليل (( كلما )) أما قول الدكتور بالخروج وتعليله الخروج بأنه لتبديل الجلود فهذا مردود من وجوهٍ :
1- فكرة خروجهم من النار تعارض آيات : (( يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ النَّارِ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ )) ثم إن (( منها )) في هذه الآية تؤيد ما ذهبتُ إليه من أنهم لم يخرجوا إلا من بعض وسطها لأن الله عندما يقول أعيدوا فيها معناها أنهم تحركوا لكنهم لم يبلغوا مبلغ الخروج لقوله تعالى (( وما هم بخارجين منها ))وفي سورة البقرة (( وما هم بخارجين من النار )) أي أنهم في كل الأحوال هم فيها
2- ثم إن الدكتور يعارض نفسه بنفسه , فهو عندما حكم على أن الذي يدخل النار لا يخرج منها قد استدل بالآية (( وما هم عنها بغائبين )) وها هو ينقضها , والآيةُ تشتملُ على نكرة منفية, يعني لن يغيبوا عنها أبدا منذ دخلوها والمقصود المشركون الذين هم أهلها
3- اللهُ قادر على أن يبدل جلودهم وهم في سواء الجحيم وما الضير في أن تبدل جلودهم تلقائيا وهم فيها
4- خروجهم يستدعي توقف العذاب عنهم وهو معارضُ ُ لنفي الله التخفيف عنهم (( فلا يخفف عنهم العذاب ))
نعودُ إلى دحض شبه الدكتور واستدلاله بالآيات على خلود عصاة المسلمين في جهنم :
استدلاله بقوله تعالى (( يوم تبيضُّ وجوه وتسودُّ وجوه )) : هذا الاستدلال باطل كاستدلاله بـ (( إن الأبرار لفي نعيم ))و (( إن الفجار لفي جحيم )) فبياض الوجوه حالُ أهل الجنة وسواد الوجوه حالُ أهل النار
أما استدلالُهُ بقول الله تعالى (( فأما من أوتي كتابه بيمينه )) و (( وأما من أوتي كتابه بشماله )) فهذا من أقبح استدلالاته , فلنأت بسورة الحاقة , يقول تعالى (( فأما من أوتي كتابه بيمينه فيقول هاؤم اقرؤوا كتابيه )) (( إني ظننت أني ملاقٍ حسابيه )) (( فـهــو في عيشة راضية )) (( في جنةٍ عالية )) (( قطوفها دانية )) (( كلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية )) هذا هو المسلم المؤمن
ثم بين حال الكافر (( وأما من أوتي كتابه بشماله فيقول يا ليتني لم أوت كتابيه )) (( ولم أدر ما حسابيه )) (( يا ليتها كانت القاضية )) (( ما أغنى عني ماليه )) (( هلك عني سلطانيه ))
انظر إلى توقيع الحكم على هذا الأخير ولماذا أوتي كتابه بشماله , يقول تعالى (( خذوه فغلوه )) (( ثم الجحيم صلوه )) (( ثم في سلسلةٍ ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه )) ثم تأتي الحكمة من الحكم له بجهنم فيقول الله تعالى (( إنه كان لا يؤمنُ بالله العظيم )) (( كان )) أي في الدنيا (( لا يؤمنُ )) دالةُ ُ على الشرك طوال الحياة فمات مشركا , كان لا يؤمن بمن ؟ (( بالله العظيم )) إذا بما كان يؤمن ؟ إنه قد اتخذ ألهه هواه , ((كما في الآية التي يستدل بها الدكتور في موضع آخر جاهلا بمناطها وعلى من تُوَقَّعُ)) , ثم ماذا بعد عدم إيمانه بالله العظيم (( ولا يحضُّ على طعام المسكين )) هذا فرعُُ تحت الأصل الكبير وهو الكفر , وهو من أساليب التدلي في القرآن , وهو أن يأتي بالسبب الأعلى ثم يتدلى إلى ما تحته من أسباب (( فليس له اليوم ها هنا حميم )) لا شفاعة , (( ولا طعام إلا من غسلين )) (( لا يأكله إلا الخاطئون )) هذه كلها صفاتُ أهل النار اللذين هم الفجار الخلص
ثم يدلل على فكره التكفيري الخبيث في تعرضه لقول الله تعالى (( لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ )) :
الآية تتحدث عن عدم استواء الفريقين , أصحاب الجنة وأصحاب النار , ولكن فكر الدكتور هو الذي أشكل عليه فأشكل على الملايين , يا دكتور الآية تتحدث عن نفي استواء الفريقين , فمن أين أتيت بهذا المعنى الزائد عن النص , ائتني بمنطوقٍ أو مفهوم من النص يقول إن عصاة المسلمين مخلدون في جهنم
ثم يقول له مقدم البرنامج المتأثرُ بكلامِهِ : لو أن الله تعالى أكرمني بدخول الجنة مكرماً معززاً بدون عذاب بينما الآخر دخل الجنة بعد أن عُذّب بحسب كلامهم
أي كلام أهل السنة , وقد استخدم ضمير الغائب لتحقير القائلين بخلاف قول الدكتور
فرد عليه الدكتور
( لا يستوي يعني لن تأتي لحظة يكونوا مستوين على قدم المساواة، لو كان الكلام كما تقول لكان لا يضير بضعة أيام في النار! لكن العذاب ليس هكذا وتوعّد الله تبارك وتعالى للمنافقين والكافرين ليس هكذا، الآية (لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ (20)) يعني أصحاب النار هم الخاسرون، لا يستوون. ))
طبعا هذا دليل بين على أن يكفر عصاة المسلمين إذ أنه عدهم من الكفار والمنافقين , ويدل أكثر سؤال المقدم له بعد قوله هذا مباشرة :
قال المقدم : (( هل الأحاديث التي تروى في هذه المسألة هل تحقق من صحتها أو أن هناك أحاديث مشكوك فيها؟ مثل حديث "شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي" هل هذا الحديث صحيح؟ ))
يرد الدكتور قائلا (( الحديث إذا عارض آية لا بد من الوقوف عنده وشرحه ونتحقق من سنده ورجاله ، هذا الحديث يعارض آية ! )) وهذه كلها نصوص حرفية لكلام الدكتور ومقدم البرنامج
الدكتور يقدم النظر في المتن على النظر في الإسناد مما يدل على أن الدكتور جاهل بالقواعد العلمية لأهل الحديث , فالقاعدة عند علماء الحديث جميعاً أنه لابد من النظر في الإسناد أولاً قبل النظر في المتن
طبعا الحديث صحيح , ولا يعارض آية في كتاب الله , لكنه عارض فهم الدكتور , فالدكتور يقول (( هذا الحديث يعارض آية )) بل يعارضُك أنتَ يا دكتور يعارض جهلك أو هواك , الحديث رواهُ أحمد وأبو داود والترمذي من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه وابن ماجه من حديث جابر رضي الله عنه , و حكم عليه بالصحة العلامة الألباني ,
طبعا الدكتور لا يعرف أن حديث الشفاعة الطويـــــــــل واردُُ في البخاري ومسلم , طبعا الدكتور قدح في البخاري وقال إن به أحاديث ضعيفة تتعارض على حد قوله (( مع القرآن )) فالدكتور يصحح ويضعف من عنده , وحجته أن الحديث يعارض القرآن , وما عارض الحديث القرآن ولكن عارض الحديثُ فهمَ الدكتور الخاطئ
ثم يقول له المقدم بعد ذلك : (( حديث "شفاعني لأهل الكبائر من أمتي" عملوا كبائر وانتهى الميزان وسيئاتهم أكثر والمفترض أنهم سيذهبون إلى النار قبل أن ينفذ الحكم يقف الرسول صلى الله عليه وسلم فيشتفّع فعفو عنهم ربنا كما قال تعالى أنه يعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء، هل يمكن أن يكون هذا هو التصور؟ يتشفع الرسول صلى الله عليهم لهؤلاء عند ربه الذي رحمته سبقت غضبه فيغفر الله لهم فيدخلوا الجنة بدون أن يدخلوا في النار أولاً، هل هذا تفسير منطقي؟ ))
قال الدكتور فضَّ اللهُ فاه
( لا غير منطقي. المنطقي ما قاله القرآن في هذه النقطة، أنت تتكلم في شفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم لأهل الكبائر. القرآن سأل الرسول صلى الله عليه وسلم سؤالاً أريدك أن تجيب عليه وهذه من الأسئلة التي تركها القرآن حتى تجيب أنت قال ( أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا (43) الفرقان) ماذا تتوقع أن يكون رد الرسول؟ سيقول لا طبعاً لأن هذا الاستفهام إنكاري ))
كبرت كلمة تخرج من فيك يا دكتور , يا جاهل , يا مدعي العلم : إن الشفاعة إنما هي لأهل الكبائر من أمته صلى الله عليه وسلم , والآية التي استشهدت بها (( أ رأيت من اتخذ إلهه هواه )) هذا وصفُُ للمشرك , مما يدل على شيئين إما أنك جاهل أو داعٍ إلى فكر أسلافك من الخوارج
ثم يقول المقدم : هو سيقول أمتي أمتي فيقال له إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك.
فيرد الدكتور : هذا الحديث الصحيح لأنه يقابل نص القرآن أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول "أصحابي وفي رواية ثانية أمتي فيُحجز عنهم صلى الله عليه وسلم وربنا يقول له إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك فهل يقول صلى الله عليه وسلم لربه لا، سآخذهم؟! غير ممكن. القرآن غالب يقول له (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا) وكيلا بمعنى شفيعاً، ماذا ستكون الإجابة من الرسول؟
ثم يقول
( إذا كنتم تريدون أن تكون الإجابة نعم وتريدون أن تخالفوا منطق القرآن فهو موضوع آخر. لكن القرآن ليس فيه آية تكلمت بهذا المنطق وهذا هو دسّ الإسرائيليين لمثل هذه المفاهيم حتى يزداد تلبيس إبليس على الناس ويقتنعوا أنهم مهما عملوا من معاصي لمجرد أنه قال (لا إله إلا الله) يدخل الجنة، هذه الآية دلت على أن القول ليس له أيّ اعتبار (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (2)) إذن لما نفتنهم يجب أن يكون هناك نتيجة للفتنة إما ناجح وإما راسب فهل تريدني أنا أُدخل الراسب الجنة؟ هذا تهريج! إذن لماذا الامتحان؟ عندما يكون هناك تلميذ فاشل معك في الفصل وتجده قد انتقل معك إلى الفصل الثاني ماذا ستقول؟ هذا الكلام لا ينفع في المنطق القرآني ولا المنطق الإلهي. ))
أولا الحديثُ الذي قاله المقدم واستدل به الدكتور دون أن يسرده كعادة العلماء ويبين ما فيه وما قد يتوهم من ألفاظه , هذا الحديثُ ليس فيه أي دلاله على أن هؤلاء ماتوا مسلمين , ولنسرد الحديث كعادة أهل العلم , الحديثُ رواهُ الإمام البخاري في أكثر من موضع من صحيحه وكذلك رواه مسلم وغيرهما , أما رواية البخاري في كتاب الرقاق عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما فهي كالتالي :
قال ابن عباس : (( قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيباً فقال : أنكم محشورون حفاة عراة غُرْلَاً (( كما بدأنا أول خلقٍ نعيده )) الآية , وإن أول الخلائق يُكسى يوم القيامة إبراهيم , وإنه سيجاءُ برجالٍ من أمتي فيؤخذ بهم ذاتَ الشمال فأقولُ يا ربِّ أصحابي فيقول لا تدري ما أحدثوا بعدك فأقول كما قال العبد الصالح (( وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ )) قال فيقال إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم ))
ألفاظُ الحديث كلها تؤكد أن هؤلاء قد ارتدوا , فهم ليسوا مسلمين , لكن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعلم بهذا فقال (( يا رب أصحابي )) هذه الجملة تثبت أنهم كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم , وفي نفس الوقت لا يقصد بها الصحابة الذين جاءت بشأنهم نصوص قطعية تثبت فضلهم وتثبت لهم الجنة ,فلا يتوهمن أحدُُ إنها قادحة في الصحابة الكرام الذين ثبت فضلهم بالنصوص الصريحة , أما جملة (( إنك لا تدري ماذا أحدثوا بعدك )) فهي تحمل دلالتين : أن هؤلاء كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ثم مات صلى الله عليه وسلم وتركهم بعده , الدلالة الثانية : أن هؤلاء الذين بدلوا لم ينزل بشأنهم نصُُ بأنهم في الجنة كما كان يحدث ببشارة المعينين بالجنة أو النار كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وكثير من الصحابة التي جاء فيهم نصُُ صريح بأنهم في الجنة , ومما يدل على أنهم ارتدوا الردة المخرجة عن الملة قولُ النبي صلى الله عليه وسلم نفسَ مقالة عيسى صلى الله عليه وسلم التي سيقولها بشأن النصارى وهي (( وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ )) فهذه مقالة عيسى عندما يسأله اللهُ تعالى في ساحة القيامة (( أ أنت قلتَ للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله )) فيقول عيسى عليه السلام (( سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته , تعلمُ ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علامُ الغيوب )) (( ما قلتُ لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم وكنت عليهم شهيدا ما دمتُ فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شئ شهيد )) وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم (( فيقال إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم )) كلُّ هذه الجمل تؤكد أنهم أشركوا
إذاً هؤلاء خرجوا من دائرة الإسلام إلى فضاء الأهواء الشاسع , هؤلاء كفروا فلن يُشَفَّعَ فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما الشفاعةُ لأهل الكبائر من أمته الذين ماتوا مسلمين ولذلك فقد ذكر الإمام الترمذي أنه رُوِيَ عن سعيد بن جبير وإبراهيم النخعي وغير واحد من التابعين في تفسير قوله تعالى (( ربما يودُ الذين كفروا لو كانوا مسلمين )) أن الكافرين عندما يرون خروج أهل التوحيد من النار يقولون يا ليتنا كنا مسلمين
وقال الإمام النووي كما ورد في تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي : اعلم أن مذهب أهل السنة وما عليه أهل الحق من السلف والخلف أن من مات موحدا دخل الجنة قطعا على كل حال , فإن كان سالما من المعاصي كالصغير والمجنون الذي اتصل جنونه بالبلوغ , والتائب توبة صحيحة من الشرك أو غيره من المعاصي إذا لم يحدث معصية بعد توبته , والموفق الذي لم يبتل بمعصية أصلا فكل هذا الصنف يدخلون الجنة ولا يدخلون النار أصلا , لكنهم يردونها على الخلاف المعروف في الورود . والصحيح أن المراد به المرور على الصراط وهو منصوب على ظهر جهنم عافانا الله منها ومن سائر المكروه , وأما من كانت له معصية كبيرة ومات من غير توبة فهو في مشيئة الله تعالى فإن شاء عفا عنه وأدخله الجنة أولا وجعله كالقسم الأول وإن شاء عذبه بالقدر الذي يريده سبحانه ثم يدخله الجنة فلا يخلد في النار أحد مات على التوحيد ولو عمل من المعاصي ما عمل . كما أنه لا يدخل الجنة أحد مات على الكفر ولو عمل من أعمال البر ما عمل , هذا مختصر جامع لمذهب أهل الحق في هذه المسألة . وقد تظاهرت أدلة الكتاب والسنة وإجماع من يعتد به على هذه القاعدة وتواترت بذلك نصوص تحصل العلم القطعي , فإذا تقررت هذه القاعدة حمل عليها جميع ما ورد من أحاديث الباب وغيره , فإذا ورد حديث في ظاهره مخالفة لهما وجب تأويله عليه ليجمع بين نصوص الشرع . انتهى .
رابعا : قول الدكتور بأن عذاب القبر لا يخفف من عذاب الآخرة ولا علاقة له بعذاب الآخرة
في حلقاته التي عنون لها باسم (( الروح والنفس )) من برنامجه (( طريق الهداية )) وفي الحلقة الثانية من هذه السلسلة , كان من ضمن أسئلة المشاهدين هذا السؤال , هو منقول بالنص وكذلك الإجابة منقولة بالنص :
السؤال : هل إذا عُذِّب الإنسان في القبريخفف عنه من عذاب يوم القيامة؟
الجواب: عذاب القبر لا يخفف منعذاب الآخرة ولا علاقة له بعذاب الآخرة وإنما هو عبارة عن مقعد الإنسان يوم القيامةيراه في قبره.
الدكتور بقوله (( وإنما هو عبارة عن مقعد الإنسان يوم القيامة يراه في قبره )) ينفي أن في القبر عذابا ونعيماً
وقد صرحت النصوص القطعية التي لا يماري فيها أحدُُ وأثبتت تلك النصوص كالشمس في ضحاها أن في القبر عذابا
قال تعالى في شأن فرعون وقومه (( النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب ))
فثبت أن هذا العرض إنما هو في القبر , وهو ما لم يحسن الدكتور فهمه فقال إنه لا يعد عذابا بقوله (( وإنما هو عبارة عن مقعد الإنسان ))
فهو بفهمٍ خاطئٍ يرى أن رؤية الإنسان مقعده من النار ليس بعذاب , وأقول له يا دكتور إن لم يكن هذا عذابا فماذا تسميه ؟ أهو نعيم ؟ فهو إما أن يكون واحداً من اثنين لا ثالث لهما : إما عذابا أو نعيماً
ولقد دلت النصوص بمنطوقها ومفهومها على أن هناك نعيما وعذابا في القبر , ولا داعي لسرد النصوص لشهرتها عند عامة الناس يكفي منها الدعاء المشهور الذي صح عن النبي صلى الله عليه وسلم (( اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر ))
إذا كان الأمر كذلك فكيف تقول أن عذاب القبر لا يخفف من عذاب الآخرة ومن الثابت أنه يخفف بل و قد يمحو الخطايا كلها كلُّ بحسب خطاياه
فقد روى البخاري في صحيحه عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه ))
وعذابٌ القبر أذى وغم وحزن ونصب ووصب , وروى مسلمُُ عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ما من مصيبة يصابُ بها المسلمُ إلا كفر بها عنه حتى الشوكة يشاكها )) وعذابُ القبر من أكبر المصائب
خامسا : الدكتور يفسرُ القرآن تفسيرا لم يقل به أحدُُ من العالمين :
ذكر الدكتور عبد الله بدر حفظه الله أيضا بعضا من سوء فهمه وجهله باللغة وهو يتعرض لتفسير قوله تعالى (( ألم يجدك يتيما فأوى )) قال هداية فض الله فاه أن يتيما تعني يتيما في النظير والمثل واستدل ببعض أمثال العرب فهم كانوا يقولون على المرأة التي ليس لها نظير (( يتيمة الضَّرة )) فقال هداية (( ألم يجدك يتيما )) يعني ليس لك مثيل (( فأوى )) أي النبوة أي صرت مستحقا للنبوة مما يدل على جهله الشديد بلغة العرب , لأن يتيم هكذا مطلقة لا يفهم منها إلا اليتم الذي يكون من فقد الأب , هذا شئ , الشئ الآخر جهلُهُ الشديد بالسياق كما تفضل الدكتور عبد الله بدر بذكر ذلك فإن في السياق دلالاتين : الدلالة الأولى : (( أ لم يجدك يتيماً فأوى )) والإيواء لا يكون إلا لليتيم المفهوم لدينا جميعا وهو فاقد الأب , وليس كما قال الدكتور بأن المفهوم من الآية أنه صلى الله عليه وسلم (( يتيما )) بمعنى يتيم المثل والنظير , فهذا معنى لا يقبله النص , أما هذا المعنى فثابتُُ في نصوص أخرى بل النصوص الأخرى تؤكد أنه صلى الله عليه وسلم (( سيدُ ولدِ آدم )) و (( سيد الأنبياء والمرسلين )) فلم يكن هناك داع لتحميل النص ما يأباه , لكنه الهوى والجهل الدلالة الثانية : قوله تعالى في السياق (( فأما اليتيم فلا تقهر )) أي إنك كنت يتيما وجعلت لك من يأويك فلا تقهر اليتيم فقد ذقت اليتم , هذا الكلام قاله هداية كما ذكر الدكتور عبد الله بدر في حلقات عن المولد النبوي من برنامجه طريق الهداية
سادسا : الدكتور يدعي أن عالم في تخريج الأحاديث ثم يقول إن الرسول صلى الله عليه وسلم عندما قال له جبريل (( اقرأ )) لم يقل (( ما أنا بقارئ )) فهذا اللفظ لا يصح عند الدكتور هداية وإنما اللفظ الصحيح في زعمه هو (( ما أقرأ )) يعني ما استفهامية وليست نافية , طبعا هذا الكلام قاله ليثبت ما قد أصله في نفس الحلقة بقوله أن الأمي هو الذي لا يكتب فقط وليس المقصود بالأمي أنه الذي لا يقرأ ولا يكتب , فقال إن الرسول صلى الله عليه وسلم قال (( ما أقرأ )) وهذا يدل على أنه كان يقرأ ولكنه يستفهم عن الذي سيقرأه ما هو ؟
قال الدكتور عبد الله بدر حفظه الله : كل روايات هذا الحديث جميعا جاءت بلفظ (( ما أنا بقارئ )) ولا توجد رواية واحدة تقول (( ما أقرأ ))
ووضح الدكتور عبد الله بدر من أين أتى هداية بهذا القول :
قال إن بعض المفسرين قالوا (( ما أنا بقارئ )) يعني (( ما أقرأ )) أي إن (( ما )) في التركيب (( ما أنا بقارئ )) استفهامية وليست نافية , قال الدكتور عبد الله بدر : أن هؤلاء قد رُدَّ عليهم بأن (( ما )) لا تصلح في هذا التركيب أن تكون استفهامية لدخول حرف الجر (( الباء )) على (( قارئ )) فإنها لا تدخل عليه إلا في حالة النفي وهي من مؤكدات النفي فلو كانت استفهامية لكان التركيب (( ما أنا قارئ ؟ ))
وإليكم ألفاظ هذا الحديث في البخاري ومسلم ومسند أحمد :
روى البخاري في ثلاثة مواضع من صحيحه عن عائشة رضي الله عنها قالت
كان أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليهوسلم الرؤيا الصادقة في النوم فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ثم حُبِّبَ إليه الخلاء فكان يلحق بغار حراء فيتحنث فيه قال والتحنث التعبد الليالي ذوات العدد قبل أن يرجع إلى أهله ويتزود لذلك ثم يرجع إلى خديجة فيتزود بمثلها حتى فجئه الحق وهو في غار حراء فجاءه الملك فقال اقرأ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أنا بقارئ قال فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال اقرأ قلت ما أنابقارئ فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال اقرأ قلت ما أنا بقارئ فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد ثمأرسلني فقال
اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم الآياتإلى قوله علم الإنسان ما لم يعلم
وروى مسلمُُ في كتاب الإيمان من صحيحه عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت كان أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليهوسلم من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ثم حبب إليه الخلاء فكان يخلو بغار حراء يتحنث فيه وهو التعبد الليالي أولات العدد قبل أن يرجع إلى أهله ويتزود لذلك ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها حتى فجئه الحق وهو في غار حراء فجاءه الملك فقال اقرأ قال ما أنا بقارئ قال فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال اقرأ قال قلت ما أنا بقارئ قال فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال أقرأ فقلت ما أنا بقارئ فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال اقرأباسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم الآياتإلى قوله علم الإنسان ما لم يعلم
وروى أحمد في مسنده عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم وكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ثم حبب إليه الخلاء فكان يأتي حراء فيتحنث فيه وهوالتعبد الليالي ذوات العدد ويتزود لذلك ثم يرجع إلى خديجة فتزوده لمثلها حتى فجئه الحق وهو في غار حراء فجاءه الملك فيه فقال اقرأ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أنا بقارئ قال فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال اقرأ فقلت ما أنابقارئ فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال اقرأفقلت ما أنا بقارئ فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال
اقرأ باسم ربك الذي خلق حتى بلغ ما لم يعلم
سابعا الدكتور يثبت جهله بعلم الحديث بقوله (( هذا حديث صحيح )) على حديثٍ (( من لم تنهه صلاته على الفحشاء والمنكر فلا صلاة له )) :
الدكتور وهو يتعرض لقوله تعالى (( إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر )) قال : بعد ذكره الآية (( ولذلك فإن من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فلا صلاة له ))
الدكتور أولا لم يفهم الآية فهما صحيحا , لأن الآية وهي خبر من الله تعالى بأن (( الصلاة )) المعرفة بألف واللام , أي التي استوفت أركانها وشروطها من عمل القلب والجوارح والخشوع , تلك الصلاة هي التي تنهى عن الفحشاء والمنكر , يعني ليست أي صلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر , إنما الصلاة التي يكون فيها عملُُ ُ للقلب مع عمل الجوارح , أما الصلاة التي بعمل الجوارح فقط فلا يطلق عليها الصلاة , إنما تسمى صلاة مُنَكَّرةً بلا ألف ولام , هذا شئُ ُ , الشئ الآخر أن الدكتور حكم على حديث باطل ورد بلفظين لا يصحان , اللفظ الأول (( من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بعدا )) هذا اللفظ أورده العلامة الألباني في سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة وقال : هذا حديثُ ُ باطل , وأورد اللفظ الثاني له وهو (( من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فلا صلاة له )) وقال : هذا حديثُ ُ منكر , إذا الحديث لا يصح , والدكتور قال صحيحُ ُ ليثبت أنه جاهلُ ُ بعلوم الحديث , بل الحديثُ يعارض حديثا صحيحا أورده العلامة الألباني في أثناء حكمه على هذا الحديث الباطل وذكر ما رواه أحمد والبزار والطحاوي والبغوي والكلاباذي بإسناد صحيح من حديث أبي هريرة : أن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له
( إن فلانا يصلي الليل كله فإذا أصبح سرق فقال سينهاه ما تقول أو قال ستمنعه صلاته ))
كان هذا عرضا لبعض من ضلالات هذا الرجل الملقب بالدكتور وعضو المجلس الأعلى للشئون الإسلامية , والمستشار برابطة العالم الإسلامي , ليعلم الناس أن هؤلاء جهلة وأن المناصب التي وصلوا إليها ليست لأنهم علماء , بل لشئ آخر يعلمه الله , وهناك أمثلة كثيرة كالدكتور هداية هذا , والعجيبُ أنهم جميعا يشربون من آبار آسنة عديدة مصدرُها واحدُُ ألا وهو البدعة والقول بما يقل به الله ورسوله , يشربون من أي بئر يخالفُ هدي محمد صلى الله عليه وسلم , وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر أخبار هؤلاء الجهال ووصفهم وصفا دقيقا يجليهم لكل من يأخذ دينه من الله ورسوله
ففي الحديث الصحيح الذي أخرجه العلامة الألباني في السلسلة الصحيحة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (( إن بين يدي الساعة سنين خداعة ، يصدق فيها الكاذب ، ويكذب فيها الصادق ، ويؤتمن فيها الخائن ، ويخون فيها الأمين ، وينطق فيها الرويبضة . قيل : وما الرويبضة . قيل : المرء التافه يتكلم في أمر العامة )) .
وفي رواية أحمد في مسنده عن أنس بن مالك قال
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن أمام الدجال سنين خداعة يكذب فيها الصادق ويصدق فيها الكاذب ويخون فيها الأمين ويؤتمن فيها الخائن ويتكلم فيها الرويبضة قيل وما الرويبضة قال الفويسق يتكلم في أمر العامة ))
أي قبل خروج الدجال ستكون هناك سنواتُُ يحدثُ فيها خداع لدرجة أن الصادق سيقولون عنه كذاب , والكذاب سيقولون عنه صادق , والأمين يقولون عليه خائن والخائن يقولون عليه أمين , ويتكلم الرجل التافه في أمور الناس من الدين والدنيا ويصدقه أغلبُ الناس ويتبعونه .