أهمية الإخلاص في الدعوة :
لئن كان الإخلاص مهما في جميع أعمال المسلم ، وركن أساس من أركان استقامتها وقبولها ، فإنه بالنسبة للدعوة إلى الله تعالى أهم وأجدر بمن تصدى لهذا العمل الشريف - ومن المفترض أن يكون الجميع كذلك - ، و ذلك لعدة أسباب رئيسة من أهمها :
أولا : إن طريق الدعوة طريق شاق ، مليء بالأشواك والمصاعب ، وليش مفروشا بالورود والرياحين ، فالداعية فيه في أمس الحاجة إلى صبر شديد يعينه على تحمل هذه المشاق والمصاعب كجفاء الناس وغلظ معاملتهم ، وقلة تقبلهم ، وهذا الصبر لا يتأتى إلا بوجود قوة نفسية كبيرة يستمدها الداعية من الإخلاص .
ثانيا : تحتاج الدعوة إلى الله تعالى إلى راحة نفسية وطمأنينة بال ، وصفاء فكر ، لأن الشخص المضطرب نفسيا والمشتت فكريا ليس له إنتاجية عملية في المجتمع ، لاستنفاد طاقاته الفكرية ، والإخلاص دائما أساس الراحة النفسية ، فمن طلب الآخرة توحدت همته ، وتجمعت همومه في هم واحد ، بينما الطالب للدنيا ورضا النفس تتشعب به أوديتها ، ويهيم في بحار مقاصدها المختلفة ، ويتشتت بين مطالبها :
إذا جعلت الهم هما واحدا .*.*.*.*.*.*. نعمت بالا وغنيت راشدا
ثالثا : أغلب أعمال الدعوة إلى الله تعالى تكون مكشوفة ظاهرة للعيان ، تكون في أوساط الناس ، فهي معرضة للرياء والتصنع والتكلف أكثر مكن غيرها .
رابعا : كثر في هذا الزمان السعي وراء الشهرة ، واللهاث خلف السمعة ، وأصبح حب الظهور والتصدر ، مقصد ومفخرة كثير من الناس ، فوجب على الداعية أن يكون حذرا من هذا المنحدر الخطير ، بالتمسك بأهداب الإخلاص .
خامسا : الدعاة مستهدفون في كل زمان ومكان ، من جميع أعداء الإسلام ، ودعاة الرذيلة والفساد ، فأعدائهم يحيطون بهم من كل ناحية ، والحصن من ذلك كله ، في الإخلاص لله تعالى والاعتصام به .
سادسا : الدعوة إلى الخير من أكبر ما يغيظ الشيطان ويوغر صدره ، فهو واقف بالمرصاد لكل من سلك هذا السبيل ، بالتلاعب في نيته ، وتثبيط عزيمته ، وتخذيل همته ، ولا سبيل لمقاومة كيده إلا بالإخلاص لله تعالى .
سابعا : الإخلاص مظنة تقبل الناس لأفكار الداعية ، واستماعهم لكلامه ، واقتناعهم بما يطرحه عليهم من أفكار ، فالناس دائما ينفرون من صاحب المصالح الشخصية ، ويجدون فجوة بينه وبينهم ، فيصمون آذانهم عن الإصغاء لكلامه ، ويغلقون عقولهم عن تقبل أفكاره .
ثامنا : الداعية محتاج دائما لتأييد الله تعالى ، ونصرته ، ومعونته ، ولا يحصل على هذا التأييد وهو بعيد كل البعد عنه سبحانه وتعالى بالتعرض لمرضاة غيره والنزوع لشهواته .
تاسعا : الإخلاص من أكبر أسباب البركة في جميع الأعمال .
ما يعين على الإخلاص في الدعوة :
أولا : تيقن الداعية تيقنا كاملا ، أن الناس لا يملكون لأنفسهم جلب نفع ولا دفع ضر ، فهم من باب أولى لا يملكون ذلك لغيرهم ، وليعلم أنه لو سجد له الناس من يوم ولادته حتى وفاته ، ثم صار إلى النار لم يفده ذلك شيئا ، وأن كل من يرائيهم ويجاملهم ، سيأتون يوم القيامة في أمس الحاجة إلى حسنة تدفع عنهم عذاب شر النار .
ثانيا : الزهد في الدنيا ،ومعرفة حقيقتها ، وقيمة لذائذها وحظوظها ، فإن الزهد الحقيقي إذا تمركز في نفس الداعية ، انتفى طلب المصالح الشخصية ، والسعي وراء متع الدنيا ، لصغر قيمتها في قلبه .
ثالثا : الحرص على الأعمال الخفية - خاصة في بداية الطريق - حتى تتعود النفس على تجريد القصد لله ، ثم يبدأ في الأعمال الظاهرة ونفسه قد تشربت الإخلاص ، وأصبح طابعا لها ، ثم يتدرج في هذا السلم بعد ذلك ، ولا ينبغي له أن يقفز مباشرة إلى الأعمال الجلية ، فإن اشتاقت نفسه إلى الأعمال التي ينتشر صيت صاحبها بين الناس فليتهم قصده .
رابعا : تدبر آيات النعيم ، وما أعده الله لأوليائه ، حتى تتشوق النفس لذلك ، فتنحصر الهمة في طلبه .
خامسا : الاطلاع على سيرة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - ، وسير السلف الصالح ، ليأخذ منهم الحرص على الإخلاص ، ويتعلم وسائل تنميته .
سادسا : استشعار رقابة الله تعالى ، واطلاعه عليه في كل لحظة ، ومعرفته بجميع حركاته وسكناته ، وجميع ما يدور في قلبه ، وما تنطوي عليه نفسه .
ما ينافي الإخلاص في الدعوة :
إن من أعظم ما يقدح في إخلاص الداعية ، ويفسد أعماله آفة الرياء ، وهو العمل لأجل الناس واستقطابهم ، واستمالة المجتمع لشخص الداعية لا لدعوته .
حتى يتحقق الإخلاص في الدعوة ، لا بد أن يتخلص الداعية من الآفات النفسية التي تخل بإخلاصه ، وتوجه نيته إلى غير رضا الله تعالى ، ومن أهم هذه الآفات :
أولا : حب الشهرة وهو التطلع إلى انتشار الصيت والسمعة بين الناس ، حتى يصبح مشهورا عندهم ، معروفا لديهم ، وعلامته أن يميل إلى الأعمال التي تشهر اسمه ، وتظهر شخصيته ، وينفر من الأعمال التي تغمر هويته ، ومن علاماته أيضا حب المخالفة والاعتراضات لكونها طريقا سهلا للشهرة وذياع الصيت ، ومن أكبر إماراته حب نسبة الأعمال إليه ، أو ما يسمى بالسرقة الأدبية والفكرية .
ثانيا : حب التصدر والظهور وهو التطلع إلى حيازة أماكن الصدارة ، فإذا جلس في مجلس فلا يقنع بما دون صدره ، وإذا عقدت ندوة فلا يرضى إلا أن يكون في الواجهة ،وإذا نسب مشروع إلى مجموعة ما وهو من بينهم ، لا بد أن يوضع اسمه في الصدارة وهكذا ، ويحز في نفسه أن يوضع في غير هذه المواضع ، كما يحب أن يمشي الناس خلفه ، ويعجب بالتفاف الطلاب والمريدين حوله .
ثالثا : حب المدح وهو القيام بالأعمال الدعوية من أجل الحصول على امتداح الناس ونيل إطرائهم ، وعلامته أن يجد الداعية ميلا للأشخاص الذين يتملقون له ويمتدحونه ، وينفر من سواهم ممن يدلونه على أخطائه أو يهمشون دوره ، ولا يعترفون بأفضاله الدعوية - على حد زعمه - ولا يغشى إلا المواطن التي تطرى فيها أعماله ويكثر فيها إطراؤه .
رابعا : جعل الدعوة وسيلة لجلب المال ، وعلامة ذلك أن يسعى جاهدا في الأعمال الدعوة التي يجنى من وراءها مالا ، ويتكاسل عن غيرها ، بل قد يرفضها البتة .
خامسا : جعل الدعوة وسيلة لشهوات دنيوية أخرى .. وذلك أن يدخل في سلك الدعوة من أجل التقرب إلى امرأة لأجل الزواج ، أو التقرب إلى شيخ أو إمام ، للحصول على منفعة دنيوية لديه .
كيف يختبر الداعية إخلاصه ؟
لكي يعرف الداعية إخلاصه في عمل دعوي معين ، أو نيته التي دخل بها السلك الدعوي ، ينظر إلى الباعث الذي بعثه للعمل ، ويراجع نفسه في الغرض الذي نشطه لهذا العمل من بداية الطريق .
فإن غالطته نفسه في ذلك وأبت إلا ادعاء الإخلاص ، فليتصور عدم تيسر العمل ، فأول شيء يحز في نفسه فقده هو الباعث الذي بعثه للعمل ، فإن تألمت نفسه لفقد الأجر والمثوبة فتلك نيته ، وإن تألمت لفقد شيء آخر ، فهو نيته .
أو يتصور قيام غيره بالعمل - ممن هو كفؤ له - بنفس الكيفية ونفس النتيجة ، فإن لم يغير ذلك في نفسه شيئا فهو مخلص ، وإن تعكر مزاجه لاقتران العمل باسم غيره ، فليراجع إخلاصه .
وإذا كان العمل ينشر إلى الناس باسم صاحبه ، فليتصور نسبة العمل لغيره ، فإن عز في نفسه تجاهل اسمه فليعد النظر في نيته .
وهذه مجرد اقتراحات وجهة نظر قد تخطئ وقد تصيب .
أثر الإخلاص في الدعوة :
الإخلاص سبب مباشر وطريق موصل لنجاح دعوة الداعية ، وإتيانها الثمار المطلوبة ، لما يورثه الإخلاص من راحة نفسية وقوة قلبية تعين صاحبها على التخطيط السليم واجتياز مصاعب الدعوة ، وتحمل مشاق التبليغ .
نصر الله كل من دعا إلى الخير ، وأرشد إلى طريق الصلاح .